(1)
على هامش إحدى الندوات، قال لى أحد الحاضرين: «اقرأ مقالاتك حول وصف مصر بالمصرى». قاطعته ـ مسرعا ـ بقولى: «لا تنس أننى أتحدث عن وصف مصر والعالم». استطرد صديقى: «مصر والعالم، ما تزعلش يا سيدى،…على أى حال أنا متحمس جدا لما كتبته وأولوية أن نعطى اهتماما لهذا الجهد من أجل تقدم البلد. أو ما أطلقت عليه فى المقالات: إنجاز نص شامل حول مصر عنا وبأيدينا، واعتباره مشروعا قوميا». ابتسمت، وكررت وأعدت أن وصف مصر بالمصرى لابد أن يواكبه وصف للعالم المتجدد/ المتضاعف فى معرفته لسد الفجوة المعر
فية التى تصل إلى أكثر من أربع موجات معرفية حتى نستطيع أن نهم وننطلق إلى الأمام. لم يرد صديقى على استدراكى. إلا أنه واصل حديثه بقوله: «ولكن ألا ترى أن غبنا قد يتسرب للقارئ الكريم تجاه المحاولات التى بذلت من أجل تحقيق ما تحاول أن تدعو إليه عبر العقود الماضية، وكأن العقل المصرى لم يجتهد فى هذا المقام»…وواصل كلامه: «أين تضع الدراسات التى أنجزت من خلال المجالس القومية المتخصصة، وماذا عن مشروع مصر 2020 الذى أداره العالم الجليل إسماعيل صبرى عبدالله مطلع التسعينيات، وكثير من المشروعات البحثية التى درست الكثير والكثير من الملفات،…إلخ»…أجبته: «اتفهم ما تقول وأقدره تماما»، ولكن…
(2)
كل ما ذكرته صحيح مائة بالمائة، ويمكننى أن أزيد عليه المشروعات البحثية المبدعة والموسوعية من عينة: أعمال نبيل على فى مجال المعرفة، ورمزى زكى فى مجال القضايا الاقتصادية والتاريخ الاقتصادى المعاصر، ومحمد رياض فى مجال القضايا العمرانية، وسعيد إسماعيل على فى المسألة التعليمية والتربوية، ومن جيل الوسط جهود هانى رسلان حول حوض النيل، ومصطفى اللباد فيما يتعلق بالإشكاليات الآسيوية، وتوفيق إكليمندس فى قضايا الدولة وبنيتها، ومن جيل الشباب وائل جمال فى محاولته الدؤوب فى نحت رؤية اقتصادية مصرية معاصرة فى ضوء جديد العالم الاقتصادى، وسامح فوزى فى مجال التنمية ورأس المال الاجتماعى، ومى مجيب، ومحمد العجاتى، وأحمد عبد ربه…، إلخ… ولكن…
(3)
«ولكن تانى»، صاح محدثى…قلت: «نعم»، ذلك لأن ما ذكرته حول الجهود السابقة، أقدره تماما. إلا أن هذه الجهود تحتاج إلى تحديث شامل. فما جرى من تحولات على أرض الواقع فى شتى المجالات يحتاج منا إلى إعادة وصف شاملة. ماذا نعرف بدقة عن المسألة الفلاحية بعد ما كتب مبكرا فى كتابات إبراهيم عامر (الخمسينيات من القرن الماضى) أو فى كتابات رءوف عباس وعاصم الدسوقى أو فتحى عبدالفتاح. وهل نعرف أن هناك من الباحثين المعتبرين، تيموثى ميتشل، قد تعرض للمسألة الفلاحية مؤخرا فى تحليل بديع. وماذا نعرف عن المسألة العمالية بعد مجمل ما كتبه أمين عزالدين. وهل استطعنا أن نطور فكرا فى الأمن القومى بعد كتابات أمين هويدى الرائدة،…، إلخ…وفى المقابل هل ندرك المدى الذى ذهبت إليه المعرفة والمستجدات الكونية؟
(4)
علينا أن نعرف أن هناك ما يطلق عليه «دورة تضاعف المعرفة» فى شتى حقول المعرفة، يشهدها العالم الآن، قد وسعت من الفجوة المعرفية بما أقدره: «بأربع موجات معرفية على الأقل»، وقد أثبت ذلك أكثر من مرة. ويكفى أن نراجع إنجازات علوم الاجتماع، والسياسة، والتاريخ، والفلسفة، والتنمية، منذ مطلع الثمانينات وإلى الآن، ونقارنها بما حققته هذه العلوم فى الخارج. وإدراك المدى الذى تداخلت فيه هذه العلوم بصورة شبكية مركبة. فالجغرافيا السياسية لا يمكن فهمها دون التاريخ وهما معا لا يمكن إدراك تأثيرهما المتبادل دون الاقتصاد السياسى، والأمن القومى،…،إلخ. هذا ناهيك أن هناك حقولا معرفية صاعدة لم تترجم إلى العربية على الإطلاق مثل أدبيات التحول الديمقراطى مثلا… كما أن مجموعة الكتب التى شغلت العالم فى السنوات الأخيرة وتمثل مراجعات حقيقية للفكر الاقتصادى الكونى ـ وأقصد بالسنوات الأخيرة السنتين الأخيرتين تحديدا ـ مثل: كتاب «رأس المال» لبيكيتى (كنا أول من نوه عنه فى نوفمبر 2013 فى هذا المكان، وقد علمت مؤخرا أن العزيز وائل جمال ينكب على ترجمته وهو بذلك يقوم بعمل جليل)، و«نهاية الرأسمالية» لديفيد هارفى (كتبنا دراسة مطولة عنه)، وغيرهما،…أو الكتب التى تتعلق بقراءة تاريخ أوروبا فى ضوء الحربين العالميتين: الأولى، والتى احتفى بمرور 100 سنة عليها، والثانية التى يمر عليها 70 سنة هذا الشهر. ومن ثم إدراك الدروس المستفادة من هاتين الحربين من أجل المستقبل والتصورات المتعلقة بتشكيل العالم الجديد (كتاب رؤية استراتيجية لبريجنسكى مثلا)،…أقول لم نترجمها حتى الآن وربما لم نسمع عنها…
(5)
نحن فى حاجة إلى «نص شامل: مرجعى وموسوعى»، يتم فيه استحضار كل النصوص المعتبرة فى شتى المجالات. ويتم تضفير هذه النصوص بمنهجية مبتكرة كى نحصل فى النهاية على «وصف لمصر»؛ حقيقى، ومواكب لما طرأ على مصر من جديد، يمكننا من رسم تصورات مستقبلية صحيحة..وفى نفس الوقت رسم خرائط معرفية للمبدعين الحقيقيين مع إدراك للتحولات الكونية المتجددة…إنها مهمة ملحة…ونواصل…