«نار» الكبار و«جنة» الأطفال

(1)

لم أصدق ما سمعته من الأصدقاء، حول النقاش الذى أثاره البعض حول أى مثوى يمكن أن يلقاه الفنان العالمى عمر الشريف بعد موته. فبدلا من أن ننشغل بتقييم ما أنجزه الفنان الراحل من خلال نقاشات معمقة. من حق كل إنسان بحسبها أن يقدر هو إنجاز هذا الفنان. كذلك أن نفتح حوارات موازية حول قضايا من عينة: ما هو مفهوم العالمية ، أو تطوير صناعة السينما، أو ما هو جديد المدارس السينمائية،…، إلخ. بدلا من ذلك كله انشغلنا بالغيب الذى لا يعرفه إلا الله…

(2)

وبداية من حق أى أحد أن يثير ما يراه. ولكن من حق آخرين أن يكون لهم رأى مختلف.. فواحدة من مزايا حراك يناير/ تمرد يونيو هى إسقاط السلطة الأبوية الاستبدادية فى بعديها: السياسى والدينى، والتحرر من قيودها، وأدواتها وآلياتها الترهيبية والترويعية. فلقد انفتح المجال لتنوع النقاش وتعدد الآراء أو بلغة أخرى إمكانية الخروج على النص الذى يحدده البشر وفق أهواء معينة ومصالح بعينها لتكبيل المخالفين والمغايرين بحجة أنهم مفوضون بذلك. وأنهم يملكون الحق المطلق فى تحديد من هو الصالح ومن هو الطالح.. خروج يؤسس لنصوص جديدة ـ إن شاء الله ـ إبداعية فى شتى المساحات تجمل الدنيا فتثير التساؤل فى عقولنا وتمتع عيوننا بكل ما هو إبداع.. فالدين للديان.. والإنسان: خليفة/ ابن لله منوط به أن ينطلق مبدعا ومجددا…

(3)

فى هذا المقام ليسمح لى القارئ الكريم أن أستعيد أفكارا كتبتها منذ ما يقرب من 10 أعوام فى دراسة حول العلاقة مع الآخر، استوحيتها من قصة «جنة الأطفال»، لأديب نوبل العظيم نجيب محفوظ (إحدى قصص المجموعة القصصية خمارة القط الأسود الصادرة عام 1969). وتدور حول نظرة الأطفال البريئة إلى الآخرين والتى تنعكس فى علاقات نقية يتبدى فيها العالم بالنسبة لهم كالجنة. وبفعل البراءة والبساطة نجد الطفلة بطلة القصة تطرح أسئلة بسيطة جدا ولكنها تحمل عمقا فلسفيا لا يستطيع الأب أن يجيب عنها، مما يضطره إلى أن يحتد ويتوتر. وهنا يبدو كما لو أن الحياة وقد انشطرت إلى شطرين: «جنة الأطفال» و«نار الكبار ».

(4)

بداية تعود الطفلة فى أحد الأيام من مدرستها، وفور دخولها إلى المنزل تسأل والدها: «أنا وصاحبتى نادية دائما مع بعض.. فى الفصل، فى الفسحة، وساعة الأكل. لكن فى درس الدين أدخل أنا فى حجرة وتدخل هى فى حجرة أخرى.. لم يا بابا؟».

ويجيب الوالد: «لأنك لك دين وهى لها دين آخر»…

وعادت وسألت الطفلة «لم أنا مسلمة؟»

فأجابها الوالد: «بابا مسلم وماما مسلمة ولذلك فأنت مسلمة». وعقبت «ونادية؟»

أجابها الوالد «باباها مسيحى وأمها مسيحية ولذلك فهى مسيحية»…

وكان رد فعل الطفلة مفاجئا للوالد، حيث قالت: «هل لأن باباها يلبس نظارة؟»..

الطفلة البريئة حاولت أن تتفهم الاختلاف فلم تجد سوى النظارة التى يلبسها والد نادية هى مكمن الاختلاف الوحيد بينها وبين نادية.

ومع تطور الحوار قالت الطفلة: «من أحسن».. لقد أدى الواقع إلى تجسيم أن هناك اختلافا بين الطفلة وصديقتها، بعد أن كانتا فى حالة تعايش بغير التفات لأى اختلاف…

(5)

وبدلا من أن تدفع القوانين نحو مزيد من التواصل الإنسانى، فإنها تكرس التقسيم وتفصل بين الناس.. بغير أن يكون لدينا إجابات حقيقية تفسر ما يحدث.. فلا يصبح أمام الأب سوى أن يقدم إجابات هى فى الواقع تعظم من الانفصال وتظهر الذاتية العمياء التى لا تريد رؤية الآخر.. وكلما تكثر الطفلة من أسئلتها البسيطة البريئة.. نكتشف عمق التناقض الذى يقع فيه الأب مع كل إجابة يقدمها لأسئلة الطفلة.. فالأسئلة التى نتصورها بديهية وسهلة الإجابة ليست كذلك.. والإجابات التى نظنها حاسمة نجدها تزيد من التباس الطفلة وقلقها…

(6)

ونعود للقصة؛ فنجد الوالد يصرخ فى ابنته: «الله يقطعك أنت ونادية فى يوم واحد».. ويظهر للوالد أنه يخطئ رغم الحذر، وأنه يدفع بلا رحمة إلى عنق الزجاجة حيث انطلقت الطفلة تسأل:

ما معنى خالق يا بابا؟

وأين يعيش؟

ولمَ يريد الله أن نموت؟ يجيب الوالد: هو يأتى بنا إلى هنا ثم يذهب بنا.

وتسأل الطفلة: لم يا بابا!، فيجيب الوالد: لنعمل أشياء جميلة هنا قبل أن نذهب.

وتسأل الطفلة مرة أخرى: ولم لا نبقى؟

يرد الوالد: لا تتسع الدنيا للناس إذا بقوا. وتستفهم الطفلة: ونترك الأشياء الجميلة؟

يجاوبها الوالد: سنذهب إلى أشياء أجمل منها.. وفجأة تقول الطفلة: إذن يجب أن نذهب؟

وبسرعة يقول الوالد: ولكننا لم نفعل أشياء جميلة بعد…

فتقول الطفلة ولكن لولو جارنا يضربنى ولا يفعل شيئا جميلا.. فهل يموت رغم أنه لا يفعل أشياء جميلة؟…

يقول الأب: الكل يموت.. فمن يفعل أشياء جميلة يذهب إلى الله.. ومن يفعل أشياء قبيحة يذهب إلى النار.

ولم يدر الأب كم أصاب ولا كم أخطأ. وحرك تيار الأسئلة علامات استفهام راسبة فى أعماقه.

وفجأة هتفت الطفلة:

أريد أن أبقى دائما مع نادية.

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern