(1)
للفيلسوف اليونانى الشهير أرسطو، عبارة لا أنساها، وردت فى كتابه السياسة تقول: «إن المجتمع يمر فى أطوار أو مراحل متعاقبة تعكس تطوره. ففى البدء تكون العائلة؛ والتى تعد الجماعة الأولى التى كونتها الطبيعة من أجل إشباع الحاجات الأولية، ثم ظهرت «القرية»؛ وهى الجماعة المشكلة من عدة عائلات بغية إشباع حاجات لم تعد تعتبر يومية بصفة بحتة. وأخيرا ظهرت المدينة؛ التى تتميز بالاستقلال الاقتصادى وتمتلك القدرة على كفاية ذاتها». وأظن أن أطروحة أرسطو لم تزل مقبولة فى عمومها، ومرجعية للنظريات الاجتماعية ـ الاقتصادية/ التى تتعلق بالمكان وتطور المدن والقرى/الحضر والريف،…،إلخ. خاصة أن هذا التطور يعكس انتقالا اقتصاديا وإنتاجيا ومن ثم تحولا ثقافيا من حالة إلى حالة. فالاقتصاد الريفى الذى يقوم على الزراعة وعلى علاقات إنتاج زراعية يختلف عن المدينة التى تقوم على التجارة والصناعة بعلاقات الإنتاج الأكثر تعقيدا، ومن ثم تختلق القيم الثقافية والسلوكيات المترتبة على ذلك.
(2)
ولكن مع مطلع السبعينيات من القرن الماضى، أى مع يوليو المضادة، سارت مصر فى طريق تنموى ـ تجاوزا ـ معاكس. فبدلا من تطوير القاعدة الصناعية التى تكونت خلال الفترة من 1919 إلى 1969. وبدلا من تنمية الريف من خلال الميكنة والتقدم العلمى، اتبعت مصر سياسات اقتصادية غير منتجة. سياسات تقوم على الاستيراد والتوكيلات والاستثمارات الأجنبية. فتراجع التصنيع وتدهورت القرية المصرية. وعليه لم تعد المدينة مدينة ولم تتقدم القرية خطوة واحدة إلى الأمام.. فلقد صارت القرية «طاردة» لأبنائها. و«ضاقت» المدينة بساكنيها ـ القدامى والوافدين ـ فصاروا «عبئا» عليها.. وكان لابد من حل أو منفذ.. فهناك سكان يتزايدون. وأفواه مفتوحة لابد من سد جوعها. وبالمناسبة فإن الزيادة السكانية هى حالة ترافق التراجع التنموى والتردى الحضرى.. فماذا كان الحل؟
(3)
«السكن المؤقت» ـ كان ـ هو الحل. وبالمناسبة كانت المساحات التى امتدت وتوسعت تحت لافتة «السكن المؤقت» هى الملعب الأساسى للذين «سيسوا الدين» (تعبير استخدمناه مبكرا: تسييس الدين وتديين السياسة وطورناه لاحقا بتعبير إضفاء المقدس على المجال العام).. وسرعان ما تحولت «مساحات السكن المؤقت»: الخالية من المرافق والخدمات، إلى مناطق سكن دائمة عرفت «بالعشوائيات». وتمت سرقة الكهرباء من هنا أو هناك. ونقل المياه بطرق عدة. ورويدا رويدا أخذت المدن تتحول إلى امتدادات لهذه العشوائيات، وضاعت الحدود بين القرية والمدينة، وذابت الملامح المميزة لكل منهما.
(4)
وفى المقابل أسست النخبة الاقتصادية الريعية من خلال شبكاتها المميزة المغلقة ما يعرف بـ«المجتمعات المغلقة» Closed/Gated Communities، أو المنتجعات. وهو نمط عرف فى أمريكا، لا يعبر فقط عن مجرد تجمع سكانى، وإنما هو جزء من تحول اجتماعى أكثر عمقا فالبوابات التى يحرسها الأمن الخاص، تعكس العمليات المجتمعية الجارية فى المجالين الاجتماعى والسياسى للأمة، والتى يعتبرها الأمريكيون محاولة لبناء ملاجئ محاطة بأسوار- فى غاية الفخامة- آمنة ومستقلة فى كل شىء تقريبا.. وهكذا تنقسم المجتمعات ذات الطابع الاقتصادى الطفيلى الريعى ما بين: «منتجعات وعشوائيات»… وتكاد تختفى القرية ـ والمدينة كوحدات إنتاجية..
(5)
تذكرت هذه الأفكار وأنا أتابع دراما رمضان هذا العام. فالمتابعة المتأنية بعيدا عن النقد الأخلاقى تشير إلى أن الدراما تعكس أحد أهم التحولات التى طرأت على الواقع المصرى المعاصر. فهى تتراوح وقائعها بين العشوائيات ـ أو لنقُل الحوارى الجديدة ـ وبين المنتجعات.. فالمدينة أو القرية بمعناهما الحضرى الدقيق لا نشاهدهما إلا نادرا.. والمقارنة البسيطة بين حارة اليهود وحوارى العشوائيات الجديدة فى: حوارى بوخارست، والصعلوك، وبعد البداية،… إلخ، سوف تعكس الكثير على رغم من بساطة الإنتاج لما كانت عليه الحارة المدينية التقليدية وما آلت إليه، كذلك إلى حارات العشوائية الجديدة. فحارة اليهود حارة مدينية بامتياز تجد فيها تجارا وأصحاب حرف صغيرة ومناخا سياسيا يفرض نفسه على المواطنين، وشرائح اجتماعية واضحة المعالم. بينما الحوارى الجديدة العشوائية التى جارت على المدينة فإنها تتسق تماما مع الطابع الخدمى الريعى، الذى اتجه إليه النظام الاقتصادى من سنترالات خاصة وكافيهات وتوكيلات وشحن لكروت اتصال المحمول وتحميل للوجوهات والرنات والأغانى، وتجارة فى الممنوعات.. حتى الأحياء التى كانت معروفة تاريخيا بأنها امتداد مدينى مثل بين السرايات الملاصقة للجامعة، فإننا نجد صناعاتها التقليدية تتآكل لصالح تجارة المذكرات ـ وهى تجارة لا يوجد لها مثيل فى العالم ـ (وأشير هنا إلى أننى كتبت ثلاثة مقالات بعنوان: «التعليم بالمذكرات» عام 2009 فى «المصرى اليوم». وفى رحلة هروب البطل فى بعد البداية نجد المسلسل يعرج بين الحارة العشوائية الجديدة والمنتجعات والمجتمعات المغلقة… وهكذا مسلسل حالة عشق…
(6)
كما ذكرت بعيدا عن النقد الفنى الصارم، أظن أن الدراما تعكس ـ بدرجة أو أخرى ـ أوضاعنا المجتمعية فى أبعادها المادية والسلوكية.. كما تعكس درجة التطور التى لحقت بالمجتمع… وهذا لا يمنع أن هناك مساحات لم تزل تحافظ على طبيعتها الحضرية فى ظل الاستقطاب الحدى بين العشوائيات والمنتجعات يعبر عنها مسلسل مثل أستاذ ورئيس قسم… ونواصل.