الشفرة السرية للبيروقراطية المصرية (3)

(1)

«الجهاز الإدارى»، «الأداة الحكومية»، «التنظيم الإدارى»، «الميرى»؛ مصطلحات متعددة يمكن أن نعبر عن كل منها بتعبير «البيروقراطية». ولا يمكن لدولة ـ ما ـ أن تدير شؤون الحياة اليومية لمواطنيها دون أن يكون لديها: «جهاز» أو «أداة» أو «تنظيم» يؤمن العملية الإدارية اليومية والممتدة فى حياة هؤلاء المواطنين على كل الأصعدة: السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، شريطة أن تكون هذه الإدارة فى أفضل حالاتها من حيث: الجودة، والسرعة، والعدالة…

ونقتطف من الكتاب العمدة لإبراهيم مدكوروميريت غالى (نموذج لجهد النخبة الرفيعة القدر الثقافى، حيث كانا من أعضاء ما يعرف بجماعة النهضة القومية التى حاولت تقديم حلول علمية وعملية لإشكاليات المجتمع) ما نصه: «الأداة الحكومية» (1943) ما يصب فى اتجاه ما سبق حيث يقول نصا: «الأداة الحكومية هى من سفينة المجتمع بمثابة الربان، ومن جسم الأمة بمنزلة الروح، تشرف على الشؤون العامة وتدبرها وتنظر فى حاجات الأمة وتعمل على سدها، فهى ضرورة من ضرورات المجتمع التى لجأ إليها الإنسان منذ نشأته»…فماذا إذا لم تستطع البيروقراطية أن تقوم بدورها تجاه المواطنين؟، ومن ثم تأمين كفاءة العملية الإدارية من حيث الجودة والسرعة والعدالة؟…

(2)

الإجابة، يمكن أن نوجزها فى أمرين هما: أولا، أن شرط «كفاءة الإدارة» الذى يعكس قدرة البيروقراطية، هو شرط، «مشروط» بأمور أخرى تختلف من مرحلة تاريخية لأخرى. من هذه الأمور نذكر: النظام الاقتصادى، موازين القوى، نمط الإنتاج، البنية الطبقية السائدة، شبكات المصالح، التشريعات وصياغاتها وطبيعة تحيزاتها، الديموجرافيا، طبيعة الدولة، منظومة القيم الثقافية، السياسات الاجتماعية، المناخ السياسى ودرجة انفتاحه،…،إلخ. وثانيا، أن البيروقراطية هى ـ فى واقع الحال ـ تعد صورة حقيقية للمجتمع، تمثل تقدمه ونهوضه، من جهة، أو تؤذن بضعفه وانحطاطه من جهة أخرى (بحسب إبراهيم مدكوروميريت غالى)…وهو ما أكدته القراءة التاريخية ـ والتى أشرنا إليها فى مقالنا السابق ـ من حيث أولا: مركزية الدولة المصرية وبنيتها البطريركية وانضباطها الجندى وانعكاس كل ذلك على الجهاز الإدارى وعلى المصريين فى حياتهم اليومية من جانب. وثانيا: تعاقب أنظمة حكم وافدة غير متماثلة فى نظمها الاقتصادية. حيث حمل كل حكم وافد نظامه الاقتصادى المختلف كليا عما سبقه وعما جاء من بعده (راجع أنظمة الحكم الوافدة بداية من الحكم البطلمى، والرومانى: الوثنى والمسيحى، والطولونى، والإخشيدى، والفاطمى بعصريه الأول والثانى، والأيوبى، والمملوكى، والعثمانى)… ونتيجة تداخل كل من التنظيم الإدارى والنظام الاقتصادى الوافدين، كان الجهاز البيروقراطى «يتمحور» ليلبى حاجات الحقبة التاريخية، مع بقاء قوامه الأساسى الذى صاحب النشأة كما هو (يمكن مراجعة أعمال ندوة: حكومة مصر عبر العصور ـ 2000)… مع الأخذ فى الاعتبار أن المراكز القيادية فى كل هيكل إدارى مستجد كانت من نصيب الوافدين… فماذا كانت النتيجة؟

(3)

النتيجة؛ أن صار المصرى «يكدح ويعمل من أجل خزانة الحاكم ـ المتعاقب/الوافد ـ تحت رقابة إدارية صارمة»، لم تكن فى صالحه ولا فى صالح المواطنين فى الأغلب ما كان يعنى فى المحصلة «الظلم البين للمصريين»، ما يعنى تحول البيروقراطية إلى أداة تنفيذية مضادة «للمواطن». نعم، قد يحسب للجهاز البيروقراطى أنه أبقى على ديمومة الوظائف الأساسية للدولة ـ فى العموم ـ دون أن تختل أو تتوقف وفى مقدمتها إدارة المياه وضبط النهر. إلا أنه فى المقابل قام بحصار ثورات المصريين ضد الحكام الوافدين بأنظمتهم الاقتصادية المتعاقبة والتى اتسمت: بالتمييز، واستلاب ثروات البلاد.

وبالأخير إعاقة حركتهم من أجل المواطنة أو اختراق حاجز السلطة بتعبير وليم سليمان قلادة… وفى هذا السياق أصبح الجهاز الإدارى من كثرة ما «تمحور»، أقرب إلى «الكهف الغويط» ذى الدوائر الحلقية المتداخلة والمتنافرة فى آن واحد. الذى كلما تمعن فى الدخول إليه وتظن أنك قد اكتشفت طوبوغرافيته ووصلت إلى نهايته. إذ بك تجده يأخذك إلى المزيد من الدوائر… فالتنظيم الإدارى الفرعونى/ المصرى القديم قد تداخل مع البطلمى الذى زاد من تراتبيته، حيث يستمر التنظيم فى تراتبيته مع تعاقب العصور ونظم الحكم الوافدة وصولا إلى العصر العثمانى… ويبقى السؤال ألم يكن من المنطقى والطبيعى أنه مع تأسيس الدولة الحديثة والأخذ بأسس التنظيم الحديث للدولة أن يختلف الأمر بعض الشىء. فيتحقق ما عبر عنه «مدكور ـ ميريت»، فى كتابهما الأداة الحكومية… نُجيب عن هذا السؤال فى مقالنا القادم…ونواصل…

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern