الشفرة السرية للبيروقراطية المصرية...(1)

(1)

البيروقراطية المصرية ـ أو الجهاز الإدارى المصرى-عتيقة وعريقة…عتيقة؛ لأنها كانت أداة تأسيس الحضارة المصرية، من جهة، وذراعا أساسية لحكام مصر، من جهة أخرى، سواء من: أهلها «الفراعنة أولا ثم الحكام الوطنيين فى الدولة الوطنية الحديثة قبل وبعد الاستقلال فى القرن العشرين»، والوافدين «عبر العصور من البطالمة إلى العثمانيين». وعريقة؛ لأنها تؤدى أدوارا تتجاوز الأدوار المتعارف عليها للجهاز الإدارى، خاصة فى لحظات التحدى المجتمعية من حيث: ضبط النهر والتوزيع العادل للماء، تماسك المجتمع، وتعبئة الجماهير، وتطبيق ما تكلف به من مشروعات السلطة المتعاقبة التى تتفاوت فى جديتها التنموية وفق رؤى أصحابها، وتوزيع المنافع العامة على المحكومين/ المواطنين… إلخ.

(2)

ولا شك أن البيروقراطية التى تأسست مع دولة محمد على كان لها دورها البارز فى بناء الدولة الحديثة التى رسمت لنفسها مسافة من الدولة العثمانية، مكرسة استقلالا وطنيا بدأ بإنشاء جيش وطنى، وتملك المصريين ثرواتهم، وتأسيس مؤسسات الحداثة وفق مشروعات تنويرية أطلقها حسن العطار والطهطاوى وعلى مبارك…إلخ. ولا شك أن محمد على بما أقره وعُرف «بقانون السيستنامة»

قد وضع الأسس لبيروقراطية مغايرة عن التى عرفها المصريون عبر تاريخهم. ولا شك أن الانطلاقة الأولى للبيروقراطية المصرية قد أنجزت إلا أن هذه الانطلاقة لم تستمر، بالرغم من أنها لعبت دورا هاما فى الفترة الناصرية إلا أن الأداء تعثر بشكل لافت. وظل التعثر يتنامى إلى أن وصل الجهاز البيروقراطى على ما هو عليه من ترهل… وفى هذا السياق نقتطف بعض العبارات من كتابات لبعض مثقفى مصر البارزين الذين أتيحت لهم فرصة العمل بالحكومة وكيف عبروا عن هذه الخبرة لما تمثله هذه الكتابات من دلالات رمزية موحية لدراستنا ولخبرتنا العملية فى هذا المقام. ويمكن اعتبارها مستهلا مفيدا لاجتهادنا حول البيروقراطية المصرية.

(3)

المقتطف الأول: «منذ تصريح 28 فبراير سنة 1922م (أى منذ قرابة نصف قرن)، وبعد أن دفعت مصر بإسراف يبلغ حد السفه المتطلب للحجر تعويضات للموظفين الأجانب (من أول المستشار إلى الكونستابل)، لتخلو مقاعدهم لأبناء الوطن، وأنا أقرأ فى الصحف أخبار محاولات لإصلاح الأداة الحكومية، وهى مسألة ذات شقين، الأول: القضاء على عيوب الروتين، والثانى: القضاء على تضخم الوظائف. ومن وراء هذه الجبهة تقبع مسألة أهم وأخطر وهى ربط المرتبات بمستوى المعيشة، ولهذه المسائل ذرية كثيرة ـ كسبان القمل ـ منها مشكلة رقابة الموظفين، مشكلة مراجعة حسابات الحكومة، مشكلة التقاضى بين الموظف والحكومة، مشكلة الترقية بالأقدمية أو الكفاءة، مشكلة الكادر الخاص. استقدمنا خبراء أجانب فقالوا هذه عقدة لا يحلها إلا من عقدها، واجتمعت لجان قدمت تقارير وضعت فى الأدراج.. بدأت عوامل الإفساد منذ اليوم الأول الذى تمصرت فيه الوظائف.. إلخ» (يحيى حقى، تراب الميرى، 15/10/1976).

(4)

المقتطف الثانى: «… فإن كل مصيبة تخطر على بال الحكومة لا يمكن أن توضع إلا على كاهل البوليس.. فهو المسؤول عن الأمن والنظام والضرائب والأموال وتنفيذ الأحكام الجنائية والمدنية والشرعية، والتعليمات الخاصة بالرى والقرعة وضبط الأسلحة وتهريب المخدرات والممنوعات.. إلخ.. كل وزارة من وزارات الدولة تلقى حملها على هذه النجوم أو ـ الضبابير ـ المثبتة فوق كتفى رجل البوليس.. ووالله لو كان لهذه الضبابير أجنحة لطارت من هول ما يلقى عليها، ولو كانت من نجوم السماء، لفضلت أن تدور فى فلك الشمس على أن تدور مع حضرة المأمور أو الضابط فى خط سيره اليومى…» (توفيق الحكيم، عدالة وفن، 1953).

(5)

المقتطف الثالث: «أما الروح العامة للإدارة فى مصر فإنها غير متجانسة الأجزاء مجهولة المقاصد والبرامج عند الموظفين أنفسهم. وليس كل أسباب ذلك راجعة إلى الاحتلال، وعجز السياسة عن إيجاد نقطة تلتقى فيها مقاصد المحتلين ومقاصد الوطنيين. بل من تلك الأسباب ما هو متعلق بولاة أمورنا، فإن الحوادث لا تزيدنا كل يوم إلا علما بأن الحكومة فى بلادنا إنما هى لمصلحة الحكام لا لمصلحة المحكومين.. وإذا تغيرت الروح العامة للإدارة المصرية وأصبحت قاعدة الحكم مصلحة المحكومين لا مصلحة الحكام.. يأتى الإصلاح الذى تطلبه البلاد».(أحمد لطفى السيد، موظفونا، 1912).

(6)

المقتطف الرابع: «وتعتبر الفترة التى بدأت بقيام ثورة 1952 وحتى 1978 من الفترات التى شهدت نموا لحجم البيروقراطية المصرية. وتعاظما فى أدوارها فقد تزايد حجم البيروقراطية المصرية من 250.000 سنة 1952 إلى 1.200.000 سنة 1970 إلى 1.900.000 سنة 1978» وأخذت الأرقام المتزايدة إلى «تضخم البيروقراطية الحكومية إلى المستوى الذى أصبح هذا التضخم معوقا للأداء البيروقراطى والمجتمع معا…». (السيد يسين وعلى ليلة، البيروقراطية المصرية: دراسة ميدانية،1994).

(7)

تشير هذه المقتطفات إلى أن «الميرى» المصرى يشوبه الكثير من الأعطال منذ وقت مبكر. كما أن كل ما يثار الآن يعود إلى قرن من الزمان.. أين تكمن المشكلة؟ هل فى تراثنا البيروقراطى منذ الفراعنة إلى ما قبل الدولة الحديثة أم فيما قام به محمد على؟.. هل فى المحتل البريطانى أم فى دولة يوليو بتجلياتها: الثورة والثورة المضادة.. أم ماذا؟.. ونواصل.

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern