أوقات صعبة

(1)

استمراراً للأجواء اللندنية التى بقيت فيها خمسة أيام بعد لقاء أُكسفورد. تداعى إلى ذهنى أعمال الكاتب الإنجليزى العبقرى تشارلز ديكنز (1812 ـ 1870)، الذى أعشق إبداعاته الأدبية التى من ضمنها: قصة مدينتين، وأوليفر تويست، وأوقات صعبة، وأوراق مستر بيكويك، ودافيد كوبر فيلد، وموسيقى الأجراس، ومعركة الحياة.. إلخ. ولا أعرف تحديداً تذكرت «ديكنز» بإلحاح. هل لأنى استعرت عنوان روايته «قصة مدينتين» كتعبير أدبى عن طبيعة الصراع الذى طرأ على دولتنا الحديثة وانقسامها إلى مدينتين: دينية ومدنية.

بالرغم من المصالحة التاريخية التى تمت تاريخياً وميزت الدولة الحديثة المصرية. أم لأننى فى إنجلترا التى تقاربت معها عبر سطور ديكنز الإبداعية التى درستها فى المرحلتين الإعدادية والثانوية (تحديداً أوليفر تويست وقصة مدينتين). وهو الأديب الذى نجح فى رصد تحولات المدينة اللندنية/ إنجلترا، فى لحظة تاريخية كانت القارة الأوروبية تعيش لحظة مخاض كبرى..أم لأن هذه الكتابات موحية وملهمة بالكثير فى تفسير «تحولاتنا» الراهنة، بالرغم من الفارق الزمنى والتطورى بيننا وبين أوروبا القرن الثامن عشر والتاسع عشر.. أم كل ذلك معا.

(2)

على أى حال، ومهما كان السبب.. فلا شك أن المتعة تكون مركبة عندما يعيد المرء النظر فى الواقع عبر مسار مغاير.. أقصد أن معالجة الواقع ومحاولة فهمه تكون أكثر إمتاعاً عبر ما يلى: أولا: تجربة إبداعية لمبدع من عينة ديكنز. ثانيا: عبر تجربة مقارنة. ثالثا: وبعيداً عن المقاربات السياسية النمطية التى- ربماـ ملها المواطنون.. لذا كانت استعارتنا «لقصة مدينتين» فى دراستنا حول الدول المصرية الحديثة مصدر ثراء للباحث ومضمون البحث المقدم.. وفى محاولة للرد على أسئلة كثيرة، باتت تطرح نفسها بإلحاح شديد، سواء على مستوى التفكير الداخلى الفردى أو الحوار الجمعى، عن الأحوال، وطبيعة الوقت الذى تمر به البلاد، وعن المستقبل؟، أو الذى أصبح معروفاً باللغة الدارجة على لسان المواطنين على اختلاف مواقعهم الاجتماعية ودرجاتهم الثقافية، مصر رايحة لفين؟، وهو السؤال الذى يأخذ تنويعات أخرى مثل: «إحنا رايحين على فين»؟، أو «إحنا ماشيين صح؟»…إلخ. فى هذا السياق ألحت علىّ- مرة أخرى- إحدى روايات ديكنز: «أوقات صعبة».. لماذا؟

(3)

استدعيت «أوقات صعبة» لسببين: الأول، فى الأغلب، للدلالة الرمزية التى يحملها العنوان. والثانى، يقيناً، لتشابه أحداث الرواية مع الواقع المصرى.. بالنسبة لعنوان الرواية «أوقات صعبة»، فعلى الرغم من ثقتى فى المستقبل، وفيما يتعلق بتطور المجتمع، فإنه لن يصح إلا الصحيح. ولكن يجب علينا أن نعترف بصعوبة الوقت بسبب تعقيداته المتشابكة مجتمعياً وإقليمياً ودولياً. فالاختلالات القائمة والتفاوتات الراسخة تمثل معركة ضارية بحق لابد من تعبئة الجميع لمواجهتها إذا ما أردنا تجاوز الوقت الصعب. والتسويق إلى أن «كله تمام»، وأن سنوات الحراك ما هى إلا «فوضى وانفلات» ينبغى تجاوزهما بالعودة إلى سياسات هى نفسها كانت سبباً لحدوث الحراك، حسبما يردد البعض، فهو أمر غير صائب.. فالأمن والانضباط ومواجهة الإرهاب كلها أمور مطلوبة ولكن دون مساس «بحرمة المجال العام» بأبعاده: المدنية والسياسية والثقافية (وهو موضوع نعود إليه فى مقال أخصصه لذلك لشرح الفكرة تفصيلا).. ذلك لأن طبيعة ما جرى فى السنوات الأربع الأخيرة معقد ويتضمن الكثير من التحولات: بعضها مرئى وبعضها لم يزل قيد التبلور.. ومن هنا ننتقل إلى مضمون رواية مثل «أوقات صعبة»..

(4)

تأتى الرواية لتعبر عن لحظة تحول حاسمة فى تاريخ إنجلترا. فلقد كتبها ديكنز عام 1854 عقب الانتفاضات المواطنية والعمالية الأوروبية التى انطلقت فى 1844 والتى يعتبرها المؤرخون لحظة فارقة بين زمنين..لماذا؟ لأنها كشفت بشكل واضح مساحة التناقضات المجتمعية ومدى التمايزات الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية بين البشر. وما يترتب على ذلك من «مزايا» تحظى بها قلة على حساب الأغلبية. كما دأب على التطرق للعلاقات الاجتماعية بين الأثرياء والفقراء وبين الأرستقراطية والعوام ولأصحاب العمل والأجراء. ومن ثم فهم كيف تطورت هذه المجتمعات. كذلك طبيعة العلاقات بين الطبقات الاجتماعية والفئات النوعية المختلفة وميكانيزمات الصراع والمهادنة بين كل منها (أفقياً ورأسياً وداخل الفئة الواحدة/ الطبقة الواحدة). ومدى انعكاس ذلك على التوجهات والمواقف والسلوكيات البشرية فى أوقات التحول الصعبة.. وهو ما يتطابق مع واقعنا المصرى الراهن.. كيف؟

(5)

يمكن اعتبار هذه الفترة من تاريخنا بالمرحلة الممتدة التى عبرتها أوروبا ـ مع إدراكنا لطبيعة الاختلاف فى الثلثين الأخيرين من القرن التاسع عشر، حيث شهدت فيها عدداً من الثورات والانتفاضات والاحتجاجات المتعاقبة.. وكيف تم الارتداد مرات عن منجزاتها، ومرات تم احتواؤها من خلال ما يعرف (فى الأدبيات) «بالحلف المقدس»(مؤسسات النظام القديم التى تم الثورة أو الانتفاض أو الاحتجاج ضدها)، ومرات بخيانة الثوار والمنتفضين والمحتجين لما قاموا من أجله…إلخ، إلا أنه دوما يأتى اليوم الذى يتم فيه تجاوز الأوقات الصعبة.. وهذا ما ينبغى أن نثق فيه وأن نعمل من أجله، وهو لن ما لن يتأتى ما لم نتعمق فى واقعنا وفى الأسباب التى أوصلتنا إلى الوقت الصعب.. ونواصل.

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern