عائد من أُكسفورد الدولة المصرية الحديثة بين «المدنى» و«الدينى» (٢)

(1)

فى إطار السيمنار الذى نظمته كلية بيمبروك ـ بجامعة أُكسفورد حول «التدين والسياسة فى مصر» يومى 12 و13 مارس الماضى. قدمنا بحثنا المعنون: «الدولة المصرية الحديثة بين المدنى والدينى»، ملحق بها عنوان فرعى نصه: «قصة مدينتين بين المصالحة البناءة والخصومة المدمرة».. حكمنى فى كتابة الدراسة عدة محددات. الأول: أن ما طلب منى فى خطاب الدعوة للمشاركة فى أعمال السيمنار أن ألقى الضوء حول «مفهوم الدولة المدنية». ونظرا لأننى أفضل استخدام مفهوم الدولة الحديثة لأنها أكثر شمولا وتعكس فى تتبع تشكلها العديد من المواصفات منها: «المدنية» و«الحداثة» و«المدينية» و«الحضرية» و«المواطنة»،… إلخ.

وظنى أن هذه المقاربة توسع من زاوية الرؤية للتجربة المصرية وإدراك مدى ثرائها وعدم اختزالها بفعل اللحظة السياسية الآنية إلى ثنائيات حدية. الثانى: إن فهم الحاضر واستشراف المستقبل لا يتأتى إلا بفهم المسار التاريخى والسياق المجتمعى للدولة المصرية الحديثة وقدرتها على إنجاز مصالحة تاريخية بين الدينى والمدنى باتت إحدى السمات المكونة لها فيما أطلقت عليه «المصالحة البناءة». وكيف أن هناك من أراد أن يغير الطبيعة المتصالحة لصالح الدولة الدينية. الثالث: الاعتزاز بالتجربة المصرية ومحاولة تحريرها من النظرة الضيقة التى ترى مصرـ بحسب كرومر أو النظرة الاستشراقية ـ بشكل عام مجتمع مفتت، أو قبلى أو ينبغى تنميطه فى قالب مثل باقى المجتمعات. الرابع: خاصة أن التجربة الأوروبية ذاتها على عكس ما يتم الترويج له ليست لونا واحدا.. وهنا أذكر فى هذا المقام ـ وقبل أن أعرض للبحث المطول باختصارـ بعض الكلمات التى قرأتها مبكرا ولفتت نظرى إلى تنوع التجربة الأوروبية بالإضافة لخبرة حوارية ممتدة أكدت ذلك.. ما يشجع فى القول إلى أن هناك تجربة مصرية مهمة علينا فهمها والاعتزاز بها وتطويرها متى احتاج الأمر…

(2)

الكلمات التى قرأتها كانت للويس عوض فى كتابه «مذكرات طالب بعثة» (الذى كتبه بالعامية فى الكتاب الذهبى ـ نوفمبر 1965)، يقول فيها: «مافيش حاجة اسمها مصر قطعة من أوروبا، أوروبا انهيه؟ فرنسا وإيطاليا، يمكن إنجلترا،…. لما أقول إن الفرنساوى مختلف عن الإنجليزى ما أقصدش إن واحد فيهم أحسن من التانى. كل اللى بأقصده هو أنهم مش زى بعض…».. وعندما شاركت فى جولات عدة فى إطار الحوار المصرى الألمانى بين كلية لوكوم ومنتدى حوار الثقافات مطلع العقد الثالث، أدركت مغزى كلمات لويس عوض المبكرة، ففى إطار الحوار حول قضايا الدين والسياسة والمجتمع المدنى والدولة والإسلام السياسى والمواطنة…أدركت أن العلمانية فى أوروبا ليست لونا واحدا…

(3)

وبعد، نعرض بحثنا الذى أشرنا فى بدايته إلى طبيعة الدولة المصرية الحديثة. التى تأسست على يد محمد على فى مطلع القرن التاسع عشر. هذه الدولة التى استطاعت أن تبلور رؤية «للحكم أو السلطة السياسية» و«للمجال العام» و«لمواطنية المواطنين» فى ضوء تعايش بناء بين كل ذلك والدين. وهو ما كان يتجلى بوضوح خلال لحظات النهوض الوطنى والذى انعكس ماديا فى الدفع بمصر الحديثة نحو التقدم. والعكس صحيح. وهو ما نطلق عليه الصيغة المصرية للمصالحة البناءة والتى تخلق مفهوم «المدنية» فى سياقها.

(4)

كما تتعرض المساهمة إلى بزوغ رؤى دينية من قبل جماعات مغلقة لا تعبر عن الخبرة المصرية مثلت خروجا على تقاليد الدولة المصرية الحديثة وحالة التصالح التاريخى بينها وبين الدين. حيث طرحت رؤية مغايرة جوهرها الخصومة مع الدولة الوطنية الحديثة. أى الانحراف عن التوافق التاريخى النضالى الذى كافح من أجله المصريون ـ على اختلافهم ـ وارتضوه فى إطار مصالحة تاريخية تم تأصيلها فقهيا وممارستها سياسيا والقبول بها حياتيا، خاصة بعد أن وجدوا كيف أن هذه الرؤية المغايرة قد أنتجت حالة من الخصومة المدمرة التى انعكست سلبا على تماسك الجماعة الوطنية المصرية. وتجدر الإشارة هنا إلى أن حالة الخصومة تسود فى سياق غاية فى التركيب. السياق الذى تسعى فيه الدولة من جهتها إلى «تأميم» الحريات والإخلال بالعدالة الاجتماعية لصالح القلة الثروية، وفى نفس الوقت يعمل الفريق الآخر على «تأثيم» الحريات وتأجيل المسألة الاقتصادية والاجتماعية، (بدلا من طرح رؤى تقدمية تنحاز للمستضعفين بوعى لا توظيفهم ككتلة فى الصراع أو ضبطهم لصالح القلة الثروية فى أزمنة المهادنة). إنه الصراع الصريح بين شموليتين: السياسية والدينية ومن ثم تكريس قسمة الدولة الحديثة إلى مدينتين.

(5)

لذا كانت اللحظة التحريرية وما ترتب عليها من حراك وتمرد، كاشفة للفكرة ونقيضها. أى أن ذروة النضال الجمعى للمصريين ارتفعت فيه مطالب هى نفسها مقومات الدولة المصرية الحديثة وسادت روحية التعايش الوطنى والمصالحة البناءة. وأن الصراع التالى للزخم الثورى وخاصة عقب الاستفتاء الدستورى قد أطلق الصراع بين الدينى والمدنى.. ونواصل…

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern