(1)
كعادة حوارات هذا الزمن، لابد أن يتطرق الأمر إلى الواقع والأوضاع والمستقبل، وماذا جرى، «وإحنا رايحين على فين»…إلخ. ولأن مراحل الحراك الكبيرة فى حياة المجتمعات «تخلخل» الكثير من المسلمات و«المستقرات»، وتظهر «التناقضات» التى تكون قابعة ومستترة، فإن النتيجة تكون الفرز المجتمعى الحاد بين «مؤيد» ومساند» و«محفز» للتغيير وبين «معارض» و«معاند» و«معوق» له…
ولهذا قد تمتد المعركة بين الفريقين وتدخل عملية التغيير فى مخاض عسير بفعل المعركة بينهما… أو ما وصفناه مرة «بقديم ينازع وجديد يصارع» (راجع مجموعة مقالاتنا تحت هذا العنوان فى المصرى اليوم العام الماضى)…وهى حالة/لحظة معقدة للغاية حاولنا تفكيكها وفهمها.
(2)
لذا، ولأن التغيير لم يتحقق بعد بحسب ما تصوره فريق «الجديد». وعليه، وفى نفس الوقت، يعتقد أنصار «القديم»، بأن هناك فرص إصلاح متاحة، ما دامت الأمورـ فى تصورهم ـ بقيت على حالها. نجد الحوارات المجتمعية تتراوح بين نغمتين: الأولى تنطلق من مقام «الحزن»، «اليأس»، «الإحباط»، «الترقب» من جهة. والثانية قوامها «الفرح»، «الأمل»، «النشوة»، «استباق الزمن»، من جهة أخرى. وهو ما يتجلى فى حوارات اجتماعية تتسم بالحدة والحدية، والثنائية الشديدة التى تنطلق من منطق الأسود والأبيض.
(3)
فى هذا السياق، طلب البعض منى أن أبدى رأيا فيما سمعت. خاصة أنى بقيت صامتا لما يقرب من الساعة، وأنا أتأمل المشهد الحوارى الاجتماعى وقد كاد يقترب من الافتراق الإنسانى، بعد الانشقاق السياسى والثقافى والاجتماعى والجيلى فى الأغلب…إلخ. ومن ثم، ومن أجل ترطيب الحوار، من جانب. ولتقريب فكرتى، قدر المستطاع، حول عملية التغيير المجتمعى والصراع بين الجديد والقديم أو بين دعاته والمتحفظين عليه، من جانب آخر- وجدتنى ألجأ إلى عالم كرة القدم كى أستعير منه ما رأيت أنه يخدم هذه الفكرة… فماذا استعرت واستحضرت إلى الواقع؟
(4)
قلت: على الرغم من الاستقطاب الحاد بينكما إلا أن هناك ما يجمع بينكما. قلت إن كلا الفريقين أو الرؤيتين يحكمهما التفكير بمنطق: مباريات «الكأس»…ساد الصمت وكأنى أقول شيئا فى غير سياق…حاولت بسرعة أن أستطرد قبل أن ينصرفا عنى وقد كنت قبل لحظات محل ثقة فى أنى لدى ما يمكن أن أسهم به…أقصد أن عملية التغيير المجتمعى والدفع إلى إحداث تحولات جذرية من أجل تقدم المجتمعات لا يكون بمنطق «المكسب» و«الخسارة»، على طريقة مباريات الكؤوس… فالمباراة قد تكون ضعيفة وقد يكون الفائز قد فاز بهدف من هجمة مرتدة وحيدة على مدى المباراة… وقد يكون المهزوم قد سنحت له العديد من الفرص ولكنه لم ينجح فى التهديف، وقد، وقد، وقد… كما أن المباراة فى ذاتها لم تأت بحسب التوقعات من حيث المستوى الخططى…أو أنها لم تعبر عن المستوى الحقيقى للفريقين بل نجدها وقد غطت على الكثير من السلبيات لدى الفريق الفائز… لذا يسمى هذا النوع من المباريات «مباريات الكؤوس»… وهى مباريات لا يمكن أن يعول عليها، مع التقدير التام لما بذل فى المباراة من جهد. قد تعطينا مؤشرات ولكنها قطعا لا يمكن أن يقاس عليها… وما هكذا يمكن أن يحكمنا منطق تفكير«مباريات الكؤوس» عند التعاطى مع الواقع المجتمعى وتحولاته… وإنما يجب أن يحكمنا منطق تفكير «مباريات الدورى»… كيف؟
(5)
فى الدورى، يلعب كل فريق ـ ذهابا وإيابا ـ مع غيره من فرق الدورى والتى يبلغ عددها فى المتوسط 20 فريقا… ما يعنى أن الفائز ببطولة الدورى تحكمه محاولة تجميع أكبر قدر من النقاط. وهذا يتطلب وضع خطة استراتيجية لتحقيق البطولة أو تحقيق مركز متقدم. فى هذا الإطار يتم وضع تصور لخطة الفريق فى ضوء إمكانيات الفريق والتكتيكات المتنوعة التى يمكن استخدامها سواء فى المباراة الواحدة أو فى كل مباراة حسب الفريق المنافس… كما أن طول مدة المنافسة يتيح تحليل مستوى الفريق وقدراته وقوة تحمله ورصد العديد من الأمور وفق المعايير المتعارف عليها فى شتى المساحات من: لياقة بدنية، قدرة فنية، وتسديدات صائبة أو على أقل تقدير فى إطار المرمى، ومدى دقة التمريرات، والاستفادة من الضربات الثابتة… إلخ. وأثناء رحلة كل فريق التنافسية يكون الهدف هو إحداث «تراكم» من خلال جولات التنافس المتعاقبة. والتعلم من الدروس المستفادة… وبقدر ما يحدث من تراكم بقدر ما يكون التغيير حاضرا غير منقوص، وغير قابل للنكوص… ولا يخضع لمنطق التجاذب اللحظى فى ضوء هزيمة عابرة أو مكسب غير مطمئن.
(6)
الخلاصة، هناك حاجة ماسة لإدراك أن التحولات المجتمعية هى عملية ممتدة ومستمرة وليس لها سقف. وأن التغيير هو عملية تراكم مادى وثقافى. ولا يخضع قانون التحول المجتمعى لمنطق معركة الجولة الواحدة (معركة الكؤوس) بل لمنطق المعركة ذات الجولات المتعاقبة والمتنوعة مع عناصر متعددة ومعان متضمنة مثل: المستغلون والاستغلال، والمستبدون والاستبداد بنوعيه: الدينى والسياسى… ونواصل.