(1)
فى نوفمبر من العام الماضى رحل عن عالمنا صاحب المقام الروائى الكبير محمد ناجى (1947 ـ 2014). ودوما فى سنوات الحراك والصخب السياسى الناتج عنها، يغادرنا المبدعون والمنجزون فى هدوء.. هكذا قدرهم أن عاشوا فى مجتمعات لم تحسم أمرها بعد، هل هى مع التقدم أم ضده، ومن ثم تقدير مبدعيها. لذا يمضى «فرسانها…دون زخرف أو جلبة وبلا صحاب»، كما يقول ناجى فى تسابيح النسيان ـ دار العين،2011. وبداية، أعتذر عن الكتابة المتأخرة عن ناجى.. ذلك لتجنب الكتابة النمطية والرثائية عن أحد مبدعينا الكبار..
وفضلت أن أعيد قراءة أعماله كلها أولا، ثم أكتب عنه بحروفه وكلماته وسطوره ونصوصه البديعة.. وخاصة أننى عرفته أولا من خلال قراءة نصه «الأفندى» الذى كان ينشر على حلقات فى مجلة المصور عام 2008، والكتابة عنه.. هذا النص المذهل عن مصر وما جرى وما وصلت إلى ما هى عليه فى العقود الثلاثة الأخيرة.. ففى عبارة موجزة يلخص لنا حال البلاد من خلال حوار مع بائعة الزهور أو التى كانت تبيع الزهور نصه ما يلى:
■ «وأنت ماذا تعملين؟.. كما رأيت أشتغل بالدولارات، وأقرأ الكف والفنجان.. كنت تبيعين الزهور؟. صارت بضاعة كاسدة، الناس الآن لا تهتم بزهور الحياة التى تمسكها بيدها، تنشغل أكثر بالغيب الذى لا تعلمه، تريد أن تطمئن على مستقبلها، حال الدنيا مقلق، والناس لا يعرفون ماذا يريدون منها».(روايات الهلال ـ 2008).
(2)
وفى المقابل كان أفندية هذا الزمان الذين يتحكمون فى مصائرنا منذ عقود مع ميلاد أغنية «السح الدح امبو»، قد انفصلوا عن التاريخ وعما يدور حولهم (فلا تأميم القناة يفرحهم ولا الحروب التى دخلتها مصر تؤرقهم)، تمت استباحة أشياء كثيرة.. لقد دربوا أنفسهم ألا يهتموا بالآخرين وأن يصنعوا عالمهم الخاص بشتى الوسائل المشروعة وغير المشروعة،..
إنهم «محايدون» بلا قضية، فإذا حدثتهم عن الحزن «لا يحسون معنى الكلمة. فالحدود تلاشت عندهم، الحزن والفرح، الرفض والرضا».. لا يأبهون بتكوين أى وجهة نظر يعملون على جمع المال بأى طريقة، شريطة أن يكون الضعف، «فالأرنب لابد أن يعود إليهم أرنبين»..لا يهم أن يتم القفز على المبادئ والجمال.. أو التطفل على تخصصات الآخرين.. فالمال والفهلوة يؤمنان الطريق لأى شىء«…ويقترب من المثقفين وفقدانهم للبوصلة فى «العايقة بنت الزين».
(3)
وما إن كتبت عن رواية «الأفندى»، حتى فوجئت فى نفس اليوم ـ وليس اليوم التالى ـ بمكالمة شكر رقيقة من محمد ناجى، حيث رتبنا أن نلتقى فورا بحضور صديقنا المشترك الكاتب والمفكر الكبير نبيل عبدالفتاح.. وفضلنا أن نلتقى فى مصر الجديدة. وبالفعل التقينا ووجدتنى أمام «تكوين إنسانى نبيل ومتواضع وراقى الحس»…الحوار معه متعة.. لديه قدرة عجيبة على التمييز بين الثمين وبين الذى لا قيمة له.. وبين الأصلى والتقليد.. وبين النقى والمخلوط.. فكان بحق خبيرا بالبشر والأحجار الكريمة وبالأعمال الفنية،…،إلخ. قدم لى عددا من رواياته منها: لحن الصباح، والعايقة بنت الزين. وبحثت عن مقامات عربية وباقى أعماله.. قرأتها فى حينها.. لم نلتق كثيرا ولكنه كان حريصا على التواصل الإنسانى فى المناسبات حتى وهو يعالج فى باريس.. كانت رسائله على بساطتها تحمل الكثير.
(4)
عالم محمد ناجى الروائى، متنوع، وغير مكرر…ففى «لحن الصباح» (2005) تجد نفسك أمام الحارة المصرية الجديدة ما بعد الحروب. ليست حارة نجيب محفوظ: الفتوات والحرافيش، أو الأغنياء والفقراء، وإنما حارة ما بعد الحروب، المشوهة التى تقطنها كائنات تعيش حياتها اليومية كاملة ولكن بمعاناة:عاجزة معاقة.. حيث يتصارع «الغلابة» فيما بينهم.. حيث يسيطر الضعيف على الأضعف ويعمل على إذلاله بالرغم من أن البؤس الإنسانى لم يفرق بينهما.. هكذا كان يمارس عباس الأكتع «رزالته» على نوفل الضعيف البصر صاحب اليد المرتعشة.. إنه الصراع الذى يؤدى إلى تدمير الجميع، لأنه صراع البؤساء أو الصراع الخاطئ.. فالحرافيش صاروا يتقاتلون.. هذه هى الحارة الجديدة.
(5)
أما العمل المذهل بالفعل فهو «مقامات عربية» (روايات الهلال ـ يونيو 1999).. حيث تجد فيه عبق وعمق ولغة كتابة ألفريد فرج، وبخاصة مسرحيتاه اللتان استلهمهما من التراث: «حلاق بغداد» و«على جناح التبريزى وتابعه قفة»، من جهة، والرؤية الفلسفية والمعرفية لنجيب محفوظ فى روايتيه: «أولاد حارتنا» و«ابن فطومة»، من حيث اتباع المسار التاريخى المتعاقب والسياحة المتأنية فى كل حقبة تاريخية.. وفى هذه الرواية بالذات نجد أديبا متمكنا من اللغة ومن التراث وشخصياته.. وقدرة عالية على توظيف كل ذلك فى عمل يتحدث عن تاريخنا المعاصر.. وأظنه عملا لا يقل عن كثير من الأعمال العالمية.. إنه نص عن السلطة وإدارتها لشؤون البلاد والعباد.. وعن المحكومين وعن تتابع الحكام وأزمنتهم.. إنه من أجمل نصوص الأدب العربى المعاصر.
(6)
هناك بشر لا تقابلهم كثيرا ولكنهم يتركون أثرا كبيرا فى حياتك متى التقيتهم.. ولكن العزاء أن محمد ناجى ترك لنا أعمالا روائية وشعرية ستظل حية، ونستعير قوله الختامى فى تسابيح النسيان «لعل حفيدك سيدتى يتعلم أن يتنفس بهجة أزهاره لا أن يبيعها للنسيان»…
رحم الله المبدع محمد ناجى.. الله على مصر الولادة.