مستقبل 25 يناير: جمهورية الاستجابة المبدعة

■ مدخل تاريخى لابد منه…

كانت المعادلة السياسية قبل يوليو 1952، تتكون من ثلاثة عناصر هى: القصر والباشوات والإنجليز. فى هذا السياق تبلورت طبقة وسطى مدينية بازغة حداثية التوجه. لعبت هذه الطبقة دورا نضاليا من أجل الاستقلال الوطنى وتحقيق المواطنة فى بعديها السياسى والمدنى. ولكن ولأسباب كثيرة أعاقت عناصر المعادلة السياسية حركة الطبقة الوسطى فى تحقيق ما تصبو إليه. من ثم حدث التحول الكبير الذى كان رمزه الدال هو التحول إلى الجمهورية فى مصر مع يوليو 1952 وتفكيك المعادلة السياسية الثلاثية القائمة.

فلقد رأت قوى التغيير، التى ينتمى قوامها الرئيسى إلى الطبقة الوسطى، أنه آن الأوان لإحداث تحولات كبرى سواء فى بنية الجسم الاجتماعى أو فى النظام السياسى أو فى منظومة الإنتاج الوطنى.. ولا يمكن أن تتحقق هذه التحولات إلا فى ظل نظام جمهورى يحقق بحسب المفهوم السياسى اليونانى القديم: «الجمهورية العادلة».

مرت الجمهورية الوليدة بثلاث مراحل يمكن تسمية كل مرحلة كما يلى: المرحلة الأولى: يوليو الثورة (1952 ـ 1956)، والمرحلة الثانية: يوليو الدولة (1957 ـ 1970)، المرحلة الثالثة: دولة يوليو المضادة (1971 ـ 2011).. كانت يوليو الثورة مرحلة تثبيت قواعد التغيير المرجو وإصلاح ما أفسدته ـ خلال الأربعينيات ـ «برجوازية كانت تلعب خارج الحلبة»، بحسب تعبير صلاح عيسى. فلم تكن نخبة الأربعينيات على مستوى تطلعات الطبقة الوسطى الصاعدة الشابة لذا تسربت من القنوات السياسية المعروفة إلى الحركة اليسارية ومصر الفتاة والإخوان المسلمين وحركة مدارس الأحد والطليعة الوفدية.

وبدأت يوليو تقيم دولتها وعينها على الطبقة الوسطى وما دون. فأقامت بنية اقتصادية هائلة مثلت قاعدة إنتاجية غير مسبوقة فى تاريخ مصر الحديث والمعاصر فى إطار رأسمالية الدولة وفى ظل شعارات اشتراكية جسدها الميثاق نظريا والتأميم ماديا. ولكن فى المقابل امتد التأميم إلى المجال العام ببعديه المدنى والسياسى. ومع اختفاء الزعيم الكاريزما وتسلم السلطة قيادة جديدة رأت ضرورة الانقلاب على ما هو قائم فكانت دولة يوليو المضادة. فغيرت من قاعدتها الاجتماعية ومن توجهاتها الاقتصادية لتكون على النقيض بالتمام مع ما قبل. وكان قانون الانفتاح الاقتصادى هو قاعدة الانطلاق لمرحلة مغايرة امتدت لثلاثة عقود تالية من خلال قوانين لاحقة. كان من نتيجة ذلك هو وصول مصر إلى حالة من التردى على كل الأصعدة. والأهم هو التخلى عن الطبقة الوسطى لتلقى مصيرها. حيث أصبحت السلطة فى خدمة ما أطلق عليه: «شبكة الامتيازات المغلقة» التى احتجزت غالبية الثروة العامة للبلاد على حساب الأغلبية مكونة فجوة اقتصادية كبيرة أو ما يعرف بمجتمع الخمس.

■ تناقضات.. تناقضات.. تناقضات…

يمكن القول إن حصاد الجمهورية بتجلياتها الثلاثة هو عدد من التناقضات الحادة التى أمسكت بالجسم الاجتماعى المصرى وأظنها تكاد تشله. تناقضات فى شتى المجالات وبكل الصور. تناقضات ظهرت مع دولة يوليو عندما مالت للعدالة الاجتماعية على حساب الحريات. وعندما انحازت يوليو المضادة إلى القلة الثورية على حساب الأغلبية بما فيها الطبقة الوسطى التى مثلت قوامها الأساسى فى البدايات. وعندما قبلت نخبة الاستقلال الوطنى بالتبعية المطلقة. كذلك التأكيد المستمر على الديمقراطية فى ظل قوانين مقيدة. والتمسك بالحداثة الشكلية والرجوع بمصر إلى ما قبل الحداثة من خلال الترويج لمفاهيم «كبير العائلة» و«أخلاق القرية». وبعد مسيرة وطنية فى مواجهة الاستعمار ثم بناء اقتصاد وطنى مستق قدر الإمكان، كان من نتيجتها دمج المصريين على اختلافهم على قاعدة المواطنة، لجأت السلطة إلى استعارة فكرة الملة والطائفة حيث التعامل مع المجموعات النوعية ككتلة من خلال «كبيرها»: عمال مصر من خلال اتحادها العام الحكومى وأمينه، الأقباط من خلال المؤسسة الدينية… إلخ.. وبالطبع رافق ذلك تفكيك القاعدة الإنتاجية التى تم النضال من أجلها. وبالرغم من الحرص على مدنية الدولة إلا أنه تم توظيف الدين سياسيا بشكل غير طبيعى، فالسلام مع إسرائيل كان بفتوى دينية وقانون تنظيم الإيجارات كان بفتوى دينية أيضا، وهكذا. وتم التخلى عن التقليد المصرى الضابط للمسافة بين ما هو دينى ومدنى. كذلك بدلا من دعم دولة القانون يتم اللجوء إلى العرف. نصوص دستورية تؤكد المساواة والعدالة وتكافؤ الفرص وقوانين متناقضة معها وواقع مؤسسى ظالم (أو ما أطلقت عليه بنى/ مؤسسات الظلم والاستبداد) فى مجالات عدة يؤكد أن من معه يحصل على الخدمة ومن ليس معه لن يحظى بأى شىء، والنتيجة العودة إلى الجماعات الأولية لتأمين الخدمات. بيد أن هذا لم يمنع حدوث كوارث فى مجالات الصحة والتعليم والتأمين… إلخ.. ولا يمكن نسيان اختلال توزيع التنمية بين الشمال والجنوب وبين المدن والريف وظهور ثنائية: «الكومباوندز» (المجتمعات المغلقة) فى مواجهة «العشوائيات» وهى ظاهرة دالة على حالة الاختلال العميقة أو التناقض المجتمعى الحاد الذى بلغته مصر.

كانت هذه التناقضات وغيرها الكثير والكثير هى القاعدة التى انطلقت منها الدورات الاحتجاجية المتنوعة منذ 2004: أولا: الدينية نتيجة الغبن الذى تعرض له الأقباط من خلال سجال دينى حاد ونزاعات قاعدية متكررة وعنف مادى، ثانيا: السياسية والمدنية والتى تمثلت فى حركات كفاية والجمعية الوطنية للتغيير، ومواقف المثقفين التى أعلنت موقفا حاسما فى مارس 2005 من خلال بيان تاريخى (تشرفت بالتوقيع عليه)، وثالثا: الفئوية والتى أصبحت دورية وممتدة فى ربوع مصر.. أقول إن هذه الدورات قد تكثفت وتقاطعت وتآلفت معا لتكون نواة حراك 25 يناير بمطالبه البسيطة والمركبة فى آن واحد: العيش/ الخبز/ العدالة الاجتماعية.. الحرية.. الكرامة الإنسانية.. والتى أحدثت تحولات كبيرة بكل المقاييس.. (راجع دراستنا الطبقة الوسطى و25 يناير ـ قيد الطبع ـ كذلك كتابنا المواطنة والتغيير).

■ تحولات نوعية كبرى…

ربما لأننا لانزال فى لب عملية التحول لم ندرك بعد حجم التحولات التى شهدتها البلاد أراد المقاومون أو لم يريدوا.. فالمقارنة التاريخية بين كل الثورات والانتفاضات السابقة على 25 يناير وما جرى خلالها ولايزال تشير إلى أن جديدا قد طال السياق المصرى تصعب معه العودة إلى الوراء.. جديدا يرقى أن نطلق عليه «تحولات كبرى» (راجع دراستنا: تحولات كبرى وإعاقات خطرة).. ويمكن إيجازها فى التحولات التالية:

التحرك القاعدى للمواطنين: ممارسة المواطنة فعليا.

مواجهة النظام الأبوى.

■ إسقاط القداسة والعصمة عن السلطة/ الحاكم.

إسقاط الشمولية.

استعادة ملف العدالة الاجتماعية ليكون حاضرا بقوة فى كل ما يحكمنا من استراتيجيات وسياسات.

أظن أن كل تحول مما سبق يحتاج منا إلى تأمل ووقفة متأنية لفهم دلالته وتجلياته بدقة.. وعليه أصبح علينا فى لحظة التحول التاريخية التى نعيشها والتى لاتزال تفاعلاتها حية مهما طال اليأس البعض، أو أراد البعض أن يعيد عقارب الساعة إلى الوراء، فمازال الحراك مستمرا ومفتوحا.. أقول علينا أن نعنى بتجديد الجمهورية، كيف؟

■ نحو جمهورية عادلة…

قبل الحديث عن طبيعة الجمهورية العادلة ومقوماتها، لابد من الإشارة إلى أن حراك يناير قد نجح فى خلخلة البنية السياسية المصرية.. وذلك بإحداث اختلالات فى منظومة علاقات القوة التى ظنت النخبة الجديدة (نخبة الليبرالية الجديدة) بأنها قد سادت وباتت أمرا واقعا لا يمكن تغييره وأنها السبيل الوحيد للنهوض بمصر وكانت النتيجة هى الوصول بمصر إلى مجتمع الخمس واحتكار الثروة فى أيدى القلة الثروية وغياب التوزيع العادل للثروة العامة للبلاد.. إن الحراك الثورى الذى جرى فى مصر لم يكن حراكا نمطيا على شاكلة الثورة الفرنسية أو ما تلاها من ارتدادات ثم ثورات أخرى. إنه «حراك مركب»، تداخلت فيه عناصر عدة منها: الجيلى، والطبقى، والمكانى، والجهوى، والدينى، والمذهبى، والجنسى. حراك تم على مراحل واتخذ أشكالا مبدعة من الاحتجاج فى ظل لحظة معرفية وتقنية يسرت للطليعة الرقمية الشبابية أن تؤمن تغييرا غير مسبوق وفريد. حراك فى مواجهة عقود من الاستبداد السياسى والدينى والثقافى، ومن ثم لابد أن تكون مهمتنا الأولى هى تجديد الجمهورية.. تجديد يعالج تناقضات واختلالات جمهورية يوليو بتجلياتها المتعاقبة. تجديد يؤمن تجاوز القديم وعدم تكرار السياسات التى ثبت فشلها وإنما تغليب كل ما يحقق «الجمهورية العادلة» التى تتسم بمقومين أساسيين هما:

أولا: «حل التناقضات التاريخية».

ثانيا: «الاستجابة المبدعة للتحولات».

إذن، جمهورية جديدة عادلة تحل وتبدع:

أولا: المسألة الاجتماعية ـ الاقتصادية،

وثانيا: تعمل على دمج الكتلة الشبابية التى تمثل غالبية المواطنين (50% من السكان تحت سن الـ25) ودراسة فشل الكيانات القائمة على استيعابهم وعدم اتهامهم بالإلحاد بعد عقود من التدين المفرط لأن وجود إلحاد فى الحقيقة يعنى إدانة للمؤسسات والحركات الدينية وليس إدانة للشباب.

وثالثا: تجديد الأفكار والمؤسسات بالقيم الحداثية التى تطلق القدرات الإبداعية.

ورابعا: تحقيق العدل على كل الأصعدة.

وخامسا: تحديث المؤسسات فى العمق ومواكبة العصر.

وسادسا: المصالحة بين الجبلاوى وعرفة (إذا ما استعرنا نجيب محفوظ).

وسابعا: بناء دولة المواطنة.

وثامنا: أن تكون السلطة منفتحة وليست مغلقة لتواكب حركية المجتمع بمكونه الشاب الرئيسى، ومن ثم لابد من إطلاق الحرية للمجتمع والحساب والمراجعة عند الخطأ.

وتاسعا: القناعة أنه لن يتم التحول الديمقراطى والتقدم بمصر إلا على قاعدة الشراكة الوطنية دون إقصاء.

كل 25 يناير وأنتم بخير.. والمجد لشهداء التغيير الذين منحونا الاستمرار والأمل.

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern