بين زمنين: الاستغراق الغيبى والانطلاق المعرفى (2)

(1)

لا أنسى قط البرنامج التليفزيونى الذى كان يناقش قضايا المراهقة لدى الشباب وما يترتب عليها من توترات. وكان البرنامج يسير سيرا طبيعيا فى محاولة الضيوف الاقتراب من الموضوع بشكل علمى. وفجأة ودون مقدمات انبرى أحد الضيوف ـ بحسم: إن مشاكل المراهقة أسبابها «الربط» و«الجان»، وهو أمر يحتاج إلى من لديه قدرة على فك «الربط» ومعرفة لغة الجان… وهكذا سار الحوار فى اتجاه مغاير:

من العلم إلى الشعوذة… ويبدو لى كيف أن هذا التوجه يتمدد بعض الشىء فى كثير من أحاديثنا… حيث تطغى عليها عبارات من عينة «امسك الخشب» و«احنا مش بنقُرّ»…. إلخ. ويعكس ما سبق حالة ذهنية ونفسية تعبر عن أننا لم نزل بعد فى زمن أطلقنا عليه الأسبوع الماضى: «زمن عفراتوش»… وهو زمن يبعد كثيرا عن الزمن الذى يعيشه العالم المتقدم والذى أطلقت عليه زمن: «روزيتا»، نسبة إلى سفينة الفضاء الأوروبية روزيتا…

إن الفجوة بين الزمنين ليست مجرد فجوة زمنية وإنما هى أكثر من ذلك بكثير.

(2)

إنها فجوة فى منطق التفكير، وفى أن لكل ظاهرة أسبابها العلمية، وأنه لم يعد هناك تفكير بسيط: أسود وأبيض، بل تفكير مركب ومتشابك؛ فلم يعد هناك تفسير وحيد للظواهر.

كما أنه لا توجد معالجات أحادية للمشاكل… بلغة أخرى فلقد أصبحت المهارة أن يتم توظيف المعرفة العلمية بتنويعاتها لحل المشاكل ولاكتشاف المعارف الجديدة ولإنجاز ابتكارات جديدة… إلخ.

ويكفى أن نشير إلى حجم الإنجازات العلمية التى حققتها البشرية خلال 2014، والتى تعكس أننا نقبع فى زمن «ظلامى أسطورى خفافيشى»؛ حيث الاستغراق التام فى الغيبيات، لا علاقة له بالزمن الحالى، يتسم بالتفجر والانطلاق المعرفى والعلمى.

(3)

من أهم الإنجازات العلمية التى تحققت نرصد ما يلى: أولا: نجح الباحثون فى معهد ماساتشوستش للتكنولوجيا بأمريكيا فى أن يقوموا بتخزين الطاقة الشمسية فى أنابيب من نوع معين تكون لديها القدرة على الاحتفاظ بهذه الطاقة لفترة زمنية واستعادتها كحرارة… وهو أمر يمكن أن تكون له تطبيقات كثيرة… كما شهدت 2014 أول عملية جراحية فى إيطاليا تم فيها إعادة الإحساس لأطراف صناعية من خلال تقنية كهربائية بيولوجية معقدة… كما استطاع العلماء الزراعيون فى جامعة كورنيل الأمريكية إنتاج نوع من البروتين يحول ثانى أكسيد الكربون فى النباتات إلى سكر باستخدام جينات من الطحالب الخضراء يتضمن معدلا فائقا للتمثيل الضوئى وعليه إنتاج غزير، ما يعنى تكثيف الناتج الزراعى… كما استطاع أهل الكمبيوتر أن يطوروا برنامجا بمقدوره التعرف على مشاعر الإنسان… كما تمكن العلماء من إعادة الحياة إلى فيروس عملاق بعد سبات دام 30 ألف سنة فى الجليد… كما تمكن العلماء لأول مرة من هندسة نظام مناعى يمكن من خلاله تعديل الجينات الوراثية بما يقويها فى مواجهة الفيروسات التى تهاجم الأجسام. وفى هذا السياق أمكن معالجة مرض نادر فى كبد أحد الفئران… ويمكن القول إن هذا النظام المناعى يعد فتحا كبيرا فى تاريخ البشرية.

(4)

ما سبق ليس إلا أمثلة لآلاف التجارب العلمية التى تعكس المدى الذى وصل إليه العقل الإنسانى من تقدم ونجاحات علمية فى شتى المجالات… إنه زمن«روزيتا»، السفينة الفضائية التى أطلقت مجسا لمسافة 5000 مليون كلم من الأرض، للبحث عن جزيئات عضوية تعين فى فهم جوهر الحياة فى الكون، والأهم هو الدقة المتناهية فى التحكم والضبط والتسيير عبر الفضاءات المتعددة… إنه زمن الانطلاق المعرفى والعلمى الذى يتميز بتضاعف المعرفة غير المحدود وبتجدد التكنولوجيا غير المسبوق… ونواصل…

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern