(1)
نهاية العام فرصة للتأمل والمراجعة والفرز، ومحاولة لتجديد الفهم فى صورته النقية بعيدا عن الحسابات والمواءمات والمصالح، ولتصحيح الإدراكات التى تتكون من خلال الممارسات.. ولا أجمل من أن تتم هذه المهمة الضرورية بعيدا عن المؤثرات و«إلحاحات» الواقع وضروراته. والأكثر جمالا أن نسترشد بالتجارب الإبداعية الإنسانية المركبة لتطمئننا و«تجدد الأمل فينا».. هذا تقليد أتبعه منذ أعوام (كان معنا من قبل: بابلو نيرودا، و..،إلخ).. فما إن يأت ديسمبر حتى تبدأ رحلة البحث «المضنية» عن الحصاد، من جانب. ومن جانب آخر محاولة التطلع لغد جديد يحمل العدل والكرامة والحرية لنا جميعا.. وليس أفضل من أن يرافقنا أحد المبدعين من أصحاب التجارب الحية المجتمعية فى المهمة «الديسمبرية» الكبيرة…فما رأيكم أن تشاركونى هذه الرفقة، وأظن أنكم لن تندموا، «واهى فرصة نبتعد عما وصفته مرة بسجالات الغلوشة»، أو «طراطيش البحر» بحسب صلاح جاهين.
(2)
مبدعنا هذا العام الذى يرافقنى هو الشاعر الفرنسى بول إيلوار(1895 ـ 1952)، صاحب الثلاثين عملا إبداعيا.. حيث وجدت فيه نموذجا على القدرة على التغلب على الإخفاقات بتجديد حياته إما: بتغيير ما يعمل، أو بالسفر، أو بممارسة نشاطات متنوعة تصب فى تغيير الواقع.. لقد عاصر وطنه يحتل، كان شاهدا على حربين عالميتين: كشاعر ومجند، وحرب إسبانيا الأهلية الدموية، وعلى مرحلة أوروبية مضطربة سادت فيها لعقود «نازية»؛ ما دفعه مرة أن يقول: «لقد حان الوقت الذى أصبح فيه من حق الشعراء جميعا، ومن واجبهم، أن يروا أنهم منغمسون انغماسا عميقا فى حياة الناس الآخرين، فى الحياة، المشتركة».. لذا استحق أن يوصف بأنه «كشاعر» قد استطاع أن يقاسم الناس آلامهم وعذابهم ومشاركتهم فى آمالهم. ما ألهمه: «الرحمة العميقة والغضب الثائر».. بالرغم من أى إخفاقات أو هزائم، كان إيلوار يبدع شعرا يزخر بالأمل والفرح النابع من حب الوطن الذى بالنسبة له محبوبة بهية ينتظرها وتنظره من أجل فك أسرها الذى يعنى تحرره. وفى هذا يقول: «لست وحدى، مثقلة أنت، بأثمار خفيفة على شفتيك. مزدانة أنتِ، بألف زهرة متباينة. مجيدة أنتِ، فى ذراعى الشمس. سعيدة أنتِ، بعصفور أليف، ونشوى بقطرة من مطر. وأبهى جمالا من سماء الصباح، ووفية.. إنما أتكلم عن حديقة. إنما أحلم»…وفى ديوانه: «السرير المائدة» ـ 1944، (ترجمة المبدع الكبير إدوارد الخراط)، وبالرغم من كل ما مر به يدعونا دوما إلى البدء من جديد.. كيف؟
(3)
فى مستهل الديوان ومن خلال قصيدة: «عامنا»؛ يقول بول إيلوار:« سوف أحب دارك، كل حجر من أحجارها، اعشقى يا غرامى دارى، لأنى سوف أحب دارك.. النهار بين شجرتين، هو أجمل الأشجار، بين أيد وضاءة، أكثر الأيدى صراحة، ليس لنا إلا فم واحد، على شغاف حبنا، كى نحيا كى نموت، كى نشدو كى نولد من جديد،.. يناير قبلة أولى، يناير كل الشهور جميلة،.. (يونيو) يجدل الزورق، زغب قنديل، أنتِ تمنحيننى شجاعة، معك العام جميل، ثغرى ذو الأنفاس الربعة، ثروة العناصر، سوف نبقى لهذا العام، مقاومة الطفولة».
(4)
المقاومة؛ الكلمة المفتاحية فى شعر إيلوار. فلقد كان باحثا دوما عن معنى للحياة. منقبا عن جوهر هذه الحياة. إن الحياة هى عمل دؤوب من أجل صناعة الفجر. ذلك لأن ـ وحده ـ وليس غيره: “الفجر” يُذيب المسوخ(جمع مسخ)»…وفى هذه القصيدة يقول: «كانوا يجهلون، أن جمالَ الإنسان أعظم من الإنسان، كانوا يعيشون ليفكروا، كانوا يفكرون ليسكتوا، كانوا يعيشون ليموتوا كانوا بلا جدوى، كانوا يستردون براءتهم فى الموت، كانوا يمضغون أزهاراً وابتسامات، لم يكونوا يجدون شجاعةً إلا على أطراف بنادقهم، لم يكونوا يفهمون شتائم الفقراء، الفقراء بلا هموم غدا، أحلام بلا شمس كانت تجعلهم خالدين لكن حتى تتغير السحابة إلى وَحلٍ.
سوف ننسى هؤلاء الأعداء لا قيمة لهم، ووشيكا سوف يردد حشد من الناس، فى صوت عذب للغاية تلك الشعلة الصافية، من أجلنا نحن الاثنين فى كل مكان قبلة الأحياء.
(5)
عام جديد.. تتوارى فيه “المسوخ”.. نتقدم فيه رافعين شعلة الحرية والكرامة والعدالة.. للدرجة دى ممكن.. نعم للدرجة دى وأكثر.. ونواصل..