البابا فرنسيس وتجديد الرسالة والدور

(1)

بهدوء ونعومة ومعرفة حديثة، وقبل ذلك بتواضع شديد ومن خلال ممارسات روحية لافتة، يقوم البابا فرنسيس بابا الفاتيكان ـ أول بابا غير أوروبى منذ 12 قرنا ـ بتجديد الفاتيكان قبلة الكاثوليكية فى العالم. التجديد يتم هذه المرة من الداخل أو فى المركز بواسطة البابا القادم من الأرجنتين، أو الجنوب/الأطراف بالمعنى الاقتصادى بحسب مدرسة التبعية التى انطلقت من أمريكا اللاتينية… كانت محاولات التجديد قد انطلقت من أمريكا اللاتينية على موجتين قبل أن يحملها البابا الجديد إلى داخل الفاتيكان… الأولى: فى عام 1955 عندما عقد الأساقفة الكاثوليك مجمعهم الثانى ـ تاريخيا ـ ليعلنوا عن الوضع غير الإنسانى الذى تعانى منه مجتمعاتهم بسبب الديكتاتورية وانحياز ا

لمؤسسة الدينية إلى الحكام بدعم الكنيسة المركز… وعندما شعر الفاتيكان آنذاك بأن هناك تمرداً سارع بعقد مجمع الفاتيكان الشهير الذى امتد لمدة أربع سنوات مطلع الستينيات. وصحيح أنه استطاع أن يصدر وثيقة تجديدية شاملة، إلا أنها لم تنجح فى الاستجابة لاحتياجات شعوب الجنوب أو الأطراف. فانطلقت الموجة الثانية: وذلك نهاية الستينيات من خلال حركة قاعدية شعبية عرفت بحركة لاهوت التحرير والتى أطلقها مجموعة من الشباب الذين انفتحوا على العصر بأفكاره الجديدة مثل: مدرسة فرانكفورت، وجرامشى، ومحاولات التجديد اللاهوتية فى أوروبا وتحديداً ألمانيا، وفكر وثقافة وإبداعات ثورة الشباب فى فرنسا، وجديد علم التنمية، واقتصاد مدرسة التبعية…إلخ. ما نتجت عنه اجتهادات دينية بديعة مقرونة بممارسة حية وسط الفقراء، (عرضنا لجانب منها فى دراستنا المبكرة عن تجربة لاهوت التحرير ـ1994).

(2)

ولكن المؤسسة الكنسية فى المركز لم تكن رحيمة. فتعاطت مع الحركة المتنامية داخل القارة اللاتينية وخارجها بعنف قاده الكاردينال راتزينجر (البابا بنديكتوس 16 لاحقاً)… ومرت الأيام وأثمرت حركة لاهوت التحرير من خلال أجيال تأثرت بأفكارها المنحازة لقيم التنمية العادلة والمتطلعة إلى الحرية دون وصايا وإلى قيم التقدم، أن تنهض ليس بكنائس القارة اللاتينية وإنما بمجتمعاتها… فالجماعات القاعدية التى تشكلت وسط الفقراء لرفع وعيهم وتمكينهم تنموياً، إما تحولت إلى كيانات ذات طبيعة سياسية محضة، أو استمر فى الإطار الكنسى يعمل على تجديد المؤسسة من الداخل…لذا رأينا قادة سياسيين ممن تعلموا من العمل القاعدى وعملوا وسط الفقراء… فكانت الحركة حافزاً نحو العمل الإيجابى المجتمعى دون خلط بين السياسة والدين… وما بدأت تنهض دول الأطراف: البرازيل، وتشيلى، وبيرو، والإكوادور، والأرجنتين،…إلخ… كان من الطبيعى أن يكون البابا فرنسيس على رأس الفاتيكان، ولكن برؤية مغايرة.

(3)

من عباراته الأولى: «الكنيسة ليست هى المبنى ولا الحجارة، إنها الإنسان القادر على استيعاب وممارسة الحداثة… وعليه لا يجب أن تتحول الكنيسة إلى منظمة غير حكومية والأساقفة إلى أمراء بلا رحمة»… أعاد هيكلة الفاتيكان على أسس مواكبة للعصر وذلك باختياره عناصر شابة. فهو يؤمن بأهمية الشباب فى هذا العصر، مدركا ـ كما يقول أحد الباحثين: «إن الشباب أسرع فئة تصطدم بالواقع المغاير لطبيعته منتفضاً ضد الفساد والظلم»…وعليه ناشد الشباب بقوله: «أنتم أيها الشباب لديكم حساسية تجاه الظلم، وعما يترتب على الفساد من تداعيات، خاصة إذا ما جاءت على أيدى أشخاص كان من المفترض أن يسعوا نحو الخير العام لا إلى خيرهم الخاص. لذا لا تيأسوا أبداً ولا تفقدوا الثقة والرجاء، ويمكن للحقيقة أن تتغير كما يمكن للإنسان أن يتغير، فاسعوا لتحقيق الخير»… وفى هذا الاتجاه يحرص البابا على أن يقدم نموذجاً عملياً فى استخدام كل ما هو بسيط متجنباً الكماليات والبذخ، ونازعاً نحو التجرد والزهد.

(4)

إن تجربة البابا فرنسيس الأول فى تجديد الفاتيكان جديرة بالقراءة والمتابعة الدقيقة والمتأنية، خاصة أنها تعكس فكرا وخطابا متجددا… كما أنه بدأ يكون حاضرا فى الساحة الدولية بمنهجية مغايرة؛ وهو ما وضح فى خطابه المهم فى إسطنبول ورعايته للمصالحة التاريخية بين أمريكا وكوبا… ونواصل.

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern