(1)
ما يجب أن «نطمع فيه هو أن يكون هنالك ميزان عدل.. يزن جهودنا، ويقدر حقها ويمنح هذا الحق فى مواعيده بلا مماطلة ولا إبطاء». عبارة عبقرية قرأتها لتوفيق الحكيم ـ مبكرا ـ فى مجموعته القصصية «عدالة وفن» (1953) المكملة لعمله الأشهر «يوميات نائب فى الأرياف» (1937).. عبقريتها أنها تتحدث عن العدالة فى سياق تعاملات الكاتب اليومية وقت أن كان يعمل فى الريف وكيلاً للنائب العام. أى أنه لم يكتب عنها من منظور فلسفى مجرد كما هى حالة أرسطو مثلاً، أو من منظور معرفى اقتصادى أو ثقافى/اجتماعى أو دينى محض، وإنما انطلق فى كلماته من واقع الحياة… حيث رأى كيف يتخلق الظلم فى واقع الريف المصرى وتتشكل أنظمة ومؤسسات اللامساواة والتمييز بأشكالها المختلفة التى تقنن الظلم وتجعله حالة مجتمعية تنتاب الجميع.
(2)
تذكرت هذا وأنا أشهد كيف يشعر كثيرون بأن ميزان العدالةـ بالمعنى المجتمعى الواسع ـ ليس على ما يرام. وأن هناك «اختلالات» كثيرة تطال مؤسسات المجتمع المختلفة تجعل من العدالة إما غائبة أو محل تفاوض أو متأخرة أو كل ذلك معاً، والنتيجة هى «تفاوتات» ضخمة بين المواطنين.. شعور تجده فى سلوك المواطنين فى كل مناحى الحياة.. شعور يتراوح بين التبرم وعدم الاطمئنان والقلق. حيث منظومة المساواة بأبعادها المتنوعة: الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية ينتابها خلل فادح.. ويدعم هذه الحالة مقولات يعلنها البعض عن التمايز فى القدرات، ومن ثم التمايز فى الحقوق. أو اعتماد الفروق الاجتماعية كفروق طبيعية لا مفر منها تحكم على الكثيرين أن يرضوا بأحوالهم التعسة باعتبارها قدرا. وأخطر ما فى هذا الأمر هو الإسناد الدينى لقدرية الوضع.. أو ربط مهن بعينها بفئات دون فئات أو حصرها فى إطار أسرى؛ حيث يتم توارث المهن.. أو التسويق لفكرة ربط المكافآت بالإنجازـ وهى فكرة لها بريق ومنطق ـ ولكن لا قيمة لها دون بذل جهد حقيقى فى تأمين المهمشين بأوليات الحياة الضرورية فى إطار العدالة بين الجميع وتوفير الفرصة/ الفرص فى تمكينهم كى يلحقوا بأصحاب الإنجازات، ومن ثم حقهم فى نيل المكافآت واستحقاق الجوائز وقطف الثمار. أى إعمال العدالة بما يقضى على الظلم من تفاوت ولا مساواة وتمييز بسبب المكانة أو الثروة أو المعتقد أو الجنس أو الجيل أو اللون أو الجهة أو العرق.
(3)
وإذا ما عدنا لمقولة توفيق الحكيم عن ميزان العدل، نقول إنها حالة مجتمعية شاملة وتامة وتتركب من عدة عناصر. أولاً: هى عملية نضالية، أى أن العدل لا يُمنح وإنما يُكتسب. ما يعنى العمل على تغيير وتحديث وتصويب ـ بحسب الاحتياج ـ للمؤسسات فى اتجاه ضمان تحقيق العدالة للمواطنين. ثانياً: لابد من وضع منظومة عدل تكون محل توافق بين الجميع؛ حيث تعترف كل الأطراف بأن الشراكة الجغرافية/ المكانية ـ بغض النظر عن أى اختلاف ـ تتطلب القبول بمبدأ المساواة بين الجميع وتفعيله. ثالثاً: وضع النظم التى تضمن الوفاء بالعدل فى موعده وبالقدر المشبع.
(4)
الخلاصة: «العدالة» حالة مجتمعية لن تتحقق ما لم نحدث التغييرات المطلوبة فى شتى المؤسسات، وقبل ذلك اختيار نموذج تنموى يؤمّن تحقيق العدالة وتطبيق سياسات تصب فى اتجاه تشكيل حالة العدالة.. لذا تقول خبرة من سبقنا إنه كلما ارتبطت العدالة بالحقوق التى نناضل معاً من أجل اكتسابها باتت العدالة حالة أصيلة فى حياتنا: قيمياً وعملياً ومؤسسياً.. ونواصل..