(1)
هل تذكرون الفيلم البديع «سواق الأتوبيس»، للعبقرى عاطف الطيب، والذى مثله الكبير جدا نور الشريف، حيث تقوم عقدة الفيلم على أنه فى اللحظة التى كان البطل ورفاقه يحاربون من أجل استرداد الأرض، كان هناك من يكوّن الثروات الطائلة وينهب الحقوق على حساب المصلحة العامة.. وكانت ورشة النجارة التى «خيرها» على الكل، النموذج الذى يريد هؤلاء المضاربون أن يختطفوه بشكل منهجى، فقد تم رهنها لسد ما تراكم عليها من ديون بشكل مخطط.. وكانت لحظة اختيار وحسم.. فالخصم قد تحدد وعليه لابد أن يستنفر البطل ورفاقه من أجل إنقاذ الورشة، وعليه حسموا أمرهم وقرروا أن يستمروا فى النضال. ومثلما حرروا الأرض من العدو الخارجى، فإن عليهم أن يحرروا البلاد من العدو الداخلى.. وهى «تيمة» تناولها كثير من المبدعين منهم: بريخت فى عمله المسرحى «طبول فى الليل».
(2)
انتصر العمل الفنى المصرى، على عكس عمل بريخت، إلى أن ينحاز البطل ورفاقه إلى الصالح العام، وأن يستمروا فى نضالهم من أجل تحرير الوطن داخليا وخارجيا.. لذا تمكنوا من تحديد الخصوم، وأدركوا أن العملية النضالية ليست معركة الجولة الواحدة، وأن الدفاع عن الكل هو الطريق لضمان استمرار الجزء، وأنه لا تناقض بين العام والشخصى، وبين التغيير/ الثورة وكل من: الجماعية، والحب، والنمو الفردى، والحرية، والعدالة، والكرامة الإنسانية… إلخ، وعليه كان الحسم الواعى.. فرأينا البطل وقد تبدل حاله فى نهاية الفيلم كلياً عن الحالة التى رأيناه فيها فى بداية الحدوتة.. ففى البداية ظن أن دوره فى عملية التحرر الخارجى يكفى أن يرتاح ويكفى أن يلتفت إلى مهنته وزوجته، وأسرته ويحوط عليهم. ولا ينبغى أن يكلفه أحد بما هو أكثر من ذلك لأنه قد آن أوان الراحة. لذا لم يطارد النشال.. على النقيض نجده، فى مشهد النهاية، يطارد النشال/ اللص الصغير كما استطاع مع رفاقه أن يواجهوا اللصوص الكبيرة، وأن يعوا أن هناك ما يمكن أن نطلق عليه «أبنية الظلم» لابد من مواجهتها، حتى يتحقق التحرر التام.. وأظن أنه لم يكن من سبيل المصادفة أن يجعل من الطبقة الوسطى فى عمومها هى بطلة الانسحاب فى البداية، والعودة المحمودة لها بعد أن اصطدمت بأبنية الظلم، ووجدت نفسها أمام ضرورة أن «تحسم أمرها» فى مواجهة الطوفان.
(3)
فى هذا السياق، كنت أرى الطبقة الوسطى والتى أحسبها قاعدة انطلاق: «حراك 25 يناير»/ «تمرد 30 يونيو»، تتردد تارة، وتتراوح تارة أخرى أمام لحظة اختيار تاريخية.. مرة بسبب الإحباط، ومرة بسبب عدم تحديد خصومها بدقة: من معها ومن ضدها، ومرة بسبب الرجوع إلى دوائر الانتماء الأولية للاحتماء بها وكأن الحياة هى العالم الأضيق، ومرة بعدم نضج وعيها التاريخى بحركة المجتمع وتناقضاته، ومرة بسبب الظن أن المباراة السياسية تقوم على جولة واحدة وليس معركة ممتدة، ومرة بالاكتفاء بانتصارات وقتية (على طريقة عصفور فى اليد)، ومرة، ومرة… أو كل ما سبق معا. وهو ما تجلى فى الحركية التى رأيناها خلال السنوات الثلاث الماضية.. فبعد كل جولة، تركن هذه الطبقة إلى الراحة.. ولكن.. لكن ماذا؟
(4)
ولكن إقبال الطبقة الوسطى على شراء شهادات استثمار قناة السويس يعنى- فيما أظن- أنهم حسموا أمرهم تجاه تجديد الوطنية المصرية، وطرح أنفسهم كقاعدة للنظام الجديد، وأن جنيهاتهم التى أسكنوها البنوك الوطنية- لا الخارج- هى التى ستبنى مصر.. وعليه لابد للسلطة أن تنحاز لهم بالتوسع فى هكذا مشروعات شريطة أن تكون إنتاجية.. كذلك تؤمن لهم «براحا» ديمقراطيا.. ونواصل.