(1)
«التقليل» مما جرى فى مصر خلال السنوات الأخيرة أصبح مهمة مقدسة من قبل البعض، حيث يقومون بها بمنهجية مركبة، تعتمد على أمرين هما: الأول: تقديم حجج تبدو منطقية حول الديمقراطية ومدى مواءمتها لنا. من أمثلة هذه الحجج نذكر منها ما يلى: «أثبتت التجربة أن المصريين مش جاهزين للديمقراطية»، «كيف يمكن أن تمارس الديمقراطية فى مجتمع نصفه من الأميين؟»… أما الأمر الثانى فيقوم على: التشكيك فى حراك 25 يناير وتمرد 30 يونيو، وذلك بضربها فى مقتل من خلال: التشويه، والتشكيك والتفكيك…
وعليه نجد مقولات من عينة: «هى 25 يناير جابت لنا إيه غير الفوضى؟»، «عمرك شفت أزمات زى اللى بتحصل الآن قبل 25 يناير؟»، «يعنى عاجبك الشباب اللى يتجرأ على أولى الأمر؟»، 25 يناير مدبرة من قبل عناصر خارجية وممولة؟»، أو بتمييز تاريخ على تاريخ أو خلق خصومة بينهما (الدخول فى لعبة التواريخ والتسلية بالأرقام بحسب الراحل العزيز زعيم حركة الطلبة فى السبعينيات أحمد عبدالله رزة)… إلخ.
(2)
ويظن هؤلاء أن هذا كفيل بأن يسقط المصريون من ذاكرتهم ما جرى فى أعقاب 25 يناير و30 يونيو على التوالى، وإلى الآن، ووصل اللحظة الآنية بزمن ما قبل 25 يناير… وكأن التاريخ قابل بأن يجرى معه عملية «مونتاج» مثل التى تتم مع المشاهد السينمائية… إلا أن عملية المونتاج التى تتم لمواجهة عدم ترهل إيقاع الفيلم السينمائى، والتخلص مما هو زائد من مشاهد قد تضر بالفيلم فى صورته النهائية، ليست قادرة أن تمارس مع واقع من لحم ودم، ووقائع عايشناها شكلت لحظة تحول حقيقية فى حياة المصريين، فى مواجهة كل من الاستبداد السياسى (حراك 25 يناير) والدينى (تمرد 30 يونيو) على السواء، أردنا أو لم نرد، وخلقت «زخما» وحيوية مجتمعية غير مسبوقة فى تاريخ مصر… حيث انكشف المستور عن كل شىء، وكل الملفات المؤجلة والتى تم تجميد البت فيها على مدى عقود خرجت إلى الشمس وأصبحت موضع نقاش واهتمام وجدل ومحاسبة ومراجعة… كما أصبح من المستحيل إعادة الزمن إلى الوراء بمنطق على طريقة «يلا نرجع زى ما كنا وعفا الله عما سلف»… ومتى كان الزمان يعود إلى الوراء.
(3)
ليت «المونتيرات»، الذين يجاهدون على قص لحظة حق وطنية: شكلت تجسيدا عمليا للمواطنة الفعل فى حياة المصريين الحديثة والمعاصرة، وصنعت زخما تاريخيا فى مواجهة عقود من السكون والجمود، أقول: ليت «المونتيرات» يراجعون مدى ما وصلت إليه أحوال العباد والبلاد من سوء (راجع مقالنا فى 2009 المعنون «أحوال لا تسر» فى نفس المكان) بسبب سياسات نتج عنها سوء النظام التعليمى والصحى وتراجع الصناعة وتآكل الأرض الزراعية، وتدنى الخدمات وعدم صيانة المرافق والفساد الذى استشرى… إلخ.. ما استدعى أن يقوم المصريون سعيا لإحلال «ماعت» (العدالة) المغيبة قسرا محل الظلم والاستبداد… وأنه مهما تجاوز البعض فى استخدام الحرية فإن هذا لا يبرر اللجوء إلى التقييد أو التعمية على تحولات كبرى جرت فى مصر ومحاولة محوها من ذاكرة الأمة والإصرار على أن ما كان أفضل ما فى الإمكان وهو الذى أوجد فجوة كبيرة بين من يملكون ومن لا يملكون… بل الأجدى هو استثمار الزخم الوطنى فى إعادة بناء وطن يتطلع إلى حياة مقوماتها الكرامة الإنسانية والحرية والعدالة الاجتماعية… ولن يتم القبول بما هو أدنى من ذلك.