(1)
عقب حرب 1967، أجرى الرائد الاجتماعى الكبير الدكتور سيد عويس دراسة غير مسبوقة عنوانها: «هتاف الصامتين: ظاهرة الكتابة على هياكل المركبات فى المجتمع المصرى المعاصرـ 1971»، حيث قام بجمع ما يكتب على خلفيات السيارات من كتابات وشعارات، وقام بتحليل مضمون لمحتواها وتصنيفها موضوعياً، كذلك مصادر هذه العبارات. حيث وجد بعضها مستمدا من الآيات الدينية، وبعضها من الأغانى، وبعضها من الأمثال الشعبية… إلخ، واستنتج كيف أن المصريين قد لجأوا إلى هذه الوسيلة كى يعبروا عما بداخلهم من مشاعر ومطالب وتطلعات بشكل يحمل النصيحة والكلمة الطيبة والمعانى الإنسانية المتنوعة.. فلقد جعلوا هذه الشعارات «تنطق بالنيابة عنهم»، خاصة أنهم استطاعوا بعبقرية شديدة،
وببساطةـ فى آن واحدـ أن يوظفوا المفردات الدينية والاجتماعية، كذلك التراث الشعبى فى تكوين شعارات موزونة ودالة ذات طابع يعبرون فيه عن همومهم وأحلامهم وتصوراتهم للعلاقات المجتمعية وللواقع الذى يتطلعون إليه.. وكانت هذه الشعارات بمثابة «هتافات» لبشر غير قادرين على الكلام- لسبب أو لآخرـ لذا وصفها سيد عويس بـ«هتاف الصامتين».. لقد كانت هذه الشعارات هى وسيلة المهمشين/ المستضعفين للتعبير عن أنفسهم.
ولكن هل بقيت هذه الكتابات كما هى؟.. وهل بقى «الصامتون» على حالهم؟
(2)
واقع الحال: لا الشعارات بقيت كما هى.. ولا بقى «الصامتون» صامتين.. فالمسح الأولى للشعارات الراهنة يقول إنها أصبحت أقل من حيث العدد.. وفى نفس الوقت حادة ومباشرة وعملية.. أقل لأن «الصامتين» قد أصبحوا ينطقون بما يريدون فورا: لفظيا وعمليا، ولم تعد هناك حاجة إلى التحايل بالكلمات.. وعليه لم تعد هناك حاجة للاحتماء بالهتافات المكتوبة.. لذا بات ما يكتبه «الصامتون» من شعارات أقرب إلى الرسائل المباشرة الموجهة للمجتمع، والتى: تبلور طريقة تفكيرهم، وموقفهم من الواقع، وسبل التحرك العملى، إنها مبادئ الصامتين الجديدة.. أو بالأحرى «الصارخين» الجدد.. لماذا؟ للإجابة لابد من إلقاء النظر على هذه الشعارات، فمنها على سبيل المثال لا الحصر ما يلى: «إحنا غلابة لكن ممكن نبقى ديابة»، و«إنت مالك ومالى ده رزقى ورزق عيالى»، و«بقولك ممنوع اللمس ولا ح اوديك ورا الشمس»… إلخ.
(3)
وللإيجاز، يمكن القول إنها الشعارات التى أصبح يجسدها «عبده موتة»، الذى كان صامتا ونطق: لفظا وفعلا.. «نُطق مركب».. هو خليط من الوعيد والتهديد والتلويح باتخاذ المواقف المطلوبة للدفاع عن النفس وعن لقمة العيش وعن الحياة التى تتماهى مع عنف محتمل إذا تم تجاوز الحدود.. وعليه نجد الكتابات الراهنة أكثر مادية وأقل إنسانية.
ذلك لأن الظرف المجتمعى هو الذى يحدد طبيعة الهتاف ونوعيته ومدى جرأته من جهة، وهل هذه الهتافات هى تعبير عن الصامتين الذين لا حول لهم ولا قوة، أم إعلان عن أن الصامتين قد تمردوا على صمتهم وصاروا من الناطقين من جهة أخرى؟
(4)
هناك فرق زمنى، لاشك، بين الكتابات التى درسها سيد عويس فى نهاية السبعينيات، وبين الشعارات الراهنة.. فلقد جرت مياه كثيرة.. صار هتاف الصامتين صراخا حيا مباشرا قابلا لممارسة الفعل دون انتظار إذن، أو تبين موافقة هذا الفعل للقانون أو لا، إنه خليط من «الهوبزية» (نسبة إلى هوبز)ـ حيث منطق الغابة يسودـ وبين الشعور بالظلم وتأخر دولة القانون عن توفير الحماية المطلوبة وإعمال القانون فى وقت مناسب، وبالإنصاف الواجب.. ما يعنى الحاجة إلى فهم السياق المجتمعى الراهن وضرورة الاستجابة اللازمة لإحداث تحول ديمقراطى قادر على استيعاب أى طاقة عنف محتملة.