سحر الدهشة

دهشة هو اسم المسلسل السنوى للفنان العبقرى يحيى الفخرانى. والمسلسل مأخوذ عن مسرحية «الملك لير» لـ«وليم شكسبير». ولكن «دهشة» تتجاوز الحبكة الشكسبيرية حول علاقة الملك لير ببناته المختلفات إلى ما هو أكثر من ذلك بكثير. «دهشة» المصرية تدور أحداثها فى صعيد مصر بدايات القرن الماضى.. ومجمل تفاصيل العمل منذ اللحظة الأولى تقول إننا أمام عمل ملحمى عميق.. الحوار والتصوير والإضاءة، بالإضافة للتمثيل، وكل عناصر العملية الإبداعية تجسد عملا كبيرا وثريا وعميقا عن: الواقع والعلاقات الاجتماعية، وقبل ذلك النفس البشرية..

عملا حيا من «لحم ودم»، حيث الشر والخير حاضران.. ليس بطريقة الصراع النمطى المباشر السطحى بين الأخيار والأشرار أو بين أهل الخير وأهل الشر.. وإنما بين بشر يتراوحون بينهما على خلفية نفوس قلقة وحائرة ومضطربة تارة، وواثقة ولديها يقين وثابتة تارة أخرى.. لذا نحن أمام ملحمة تختلط فيها المأساة والملهاة.. والأسطورة والحقيقة.. من خلال بشر يمثلون الجسم الاجتماعى بعناصره المختلفة: «ملحمة ساحرة مدهشة».

(2)

«دهشة» أكثر من مسلسل، هو حالة من الإبهار والإبداع الذى يجلس أمامه المشاهد وقد غاص فى مكنون الشخصية التى يراها بنجاحاتها وإخفاقاتها، وخبراتها الإيجابية والسلبية التى حكمت خياراته وقراراته الحياتية، والتى فى الأغلب يجد فيها نفسه، ويرى ظلالا من مصير الشخصية/ مصائر الشخصيات حاضرا فى حياته وعلاقاته.. ما يعينه على أن يعيد اكتشاف نفسه وضرورة تجديدها وتحريرها، نتيجة «دهشته» من الوقائع والأحداث والتفاعلات التى انخرط فيها.. حيث تتكشف النفس الإنسانية للمشاهد من خلال تفاصيل صغيرة يراها أمامه حول العلاقات التى تتجسد أمامه بين الآباء والأبناء والبنات، وبين الإخوة والأخوات الأشقاء وغير الأشقاء.. وبين السلطة والثروة.. وبين السلطة الواقعية والسلطة القانونية.. وبين الممنوع والمباح.. وبين الحرام والحلال.. وبين الفطرة والقانون.. وبين القديم والجديد.. وبين المتعة: حرامها وحلالها، والشقاء: الإرادى والقسرى.. وبين ما نتصور أنه بديهى ثم نفاجأ بأنه ليس كذلك.

(3)

فى هذا السياق، ومن خلال تشابكات أهل القرية تظهر أغلب مفردات وعناصر مسرحية الملك لير فى طبعتها المصرية.. حيث الباسل يرغب فى أن يعدل بين بناته نظير أن يغرقنه فى الحب، وموقف البنات من ذلك بين التى تنافقه ومن تبالغ فى ذلك وأخيرا من ترى أن المشاعر لابد أن تكون طبيعية وفى سياقها وما سيترتب على ذلك وستكشف عنه أحداث المسلسل لاحقا.. وبين شرعية سطوة الأشقاء.. وبين الابنين الشرعى والسفاح لشقيق الباسل.. وبين سلطة الباسل الشرعية بماله وتجارته ورجاله وسلطة القانون ممثلة فى نقطة الشرطة/ الضابط… إلخ.

(4)

كل هذا وغيره يقدمه المسلسل بلغة شاعرية جميلة وناعمة رغم خشونة الحياة الريفية القديمة.. كتبها مؤلف موهوب أتابعه منذ فترة اسمه عبدالرحيم كمال الذى قدم «الرحايا» لنور الشريف، و«همام» ليحيى الفخرانى الذى قدم فترة مهمة من تاريخ مصر (بلا أخطاء).. وأخيرا الإخراج البديع لشادى الفخرانى الذى يقدم فى كل مشهد لوحة فنية بديعة.. وأذكر فى هذا المقام كيف من خلال نشاط ما عُرف بمجموعة التنمية الثقافية، والتى عنيت نهاية الثمانينيات مطلع التسعينيات بالتكوين الثقافى للشباب، كنا نقدم مشروعات التخرج لشباب السينمائيين وكان من ضمنهم شادى حيث حظى مشروع تخرجه بالإعجاب معلنا ميلاد فنان كبير.. وفعلا مصر ولادة ومتجددة.

(5)

كم نحن فى حاجة إلى «الدهشة» التى تحرك القلوب وتثير الأذهان، وتدفعنا إلى أن ندرك جوهر الحياة وجمالها، ومن ثم ننقذ ما يمكن إنقاذه من خير عام وجمال، ونحرر المظلومين ونقيم العدل بلا مقابل.. فنجعل من حياتنا معنى.

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern