رأس المال إلى أين؟

(1)

«المجتمعات الحية هى التى تُخضع، دوما، أفكارها ونضالاتها وخبراتها للبحث والمراجعة».. بهذه الكلمات قدمنا مقالنا المؤرخ فى 15 إبريل الماضى.. عقب عودتنا من رحلة أوروبية كانت ممتلئة بالمشاركات والمشاهدات، وثرية كالعادة بكثير من الكتب والدوريات.. وأذكر أننى أشرت ضمن ما أشرت إلى كتاب عنوانه: «رأس المال فى القرن الواحد والعشرين»؛ لتوماس بيكيتى.. وربما نكون أول من أشار إلى الكتاب الذى يحتل على مدى أشهر ثلاثة صدارة الكتب الأكثر مبيعا فى أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية.. وقبل استعراض أهم ما فى الكتاب، يهمنى أن أؤكد على أمرين..

(2)

الأول: هو أنه لا توجد إجابات نهائية ونموذجية، طالما هناك حياة، فالحق فى التساؤل يبقى مكفولاً ومضموناً، وكل الأفكار والقضايا تخضع للبحث والمراجعة.. عكس المجتمعات النمطية فهناك إجابة واحدة نموذجية، تظل كما هى لا يقترب منها أحد، حيث تولد أجيال وتموت فلا أحد يجرؤ على إعادة طرح الأسئلة وتزداد الإجابات عصمة ويتشكل حولها كهنة وحراس لحمايتها باعتبارها حقائق مطلقة.. لذا يتقدم الآخرون ونتراجع نحن.. الثانى: خذ موضوع الكتاب الذى نحن بصدده وهو: «رأس المال»؛ كيف يتم تناوله من قبل اقتصادى فرنسى شاب يبلغ من العمر 44 سنة، حيث، على مدى ما يقرب من 700 صفحة (أربعة أقسام: 16 فصلا)، يؤصل ويحلل ويعيد النظر ويقدم حقائق ويطرح تصورات وتوقعات مستقبلية، تخلق حالة حوارية عابرة للقارات من قبل الاقتصاديين وعلماء السياسة والصحفيين ومراجعات للكتاب فى أهم دوريات فى الغرب، ونفاد طبعته الأولى خلال أيام، وهو أمر اختبرته بنفسى.. ماذا عن الكتاب..

(3)

أهمية الكتاب تنطلق من أنه يتتبع التراكم التاريخى «لرأس المال» منذ قبل منتصف القرن التاسع عشر، من خلال رصد النسبة بين رأس المال والدخل، وفى هذا التتبع يرسم المؤلف ملامح رأس المال وتحولاته أو Metamorphosis of Capital، كيف أن «الثروة» بأشكالها المتنوعة، تركزت فى أيدى قلة.. ويستعرض المسار التاريخى لرأس المال من أوروبا القديمة إلى العالم الجديد.. ويشير إلى دور الحربين العالميتين فى أنها فتحت أفقا للطبقات المتوسطة وللعمال فى الاستفادة من هذا التراكم على مدى عقود ثلاثة ممتدة هى الأعظم بالنسبة للطبقة الوسطى، وذلك من منتصف الأربعينيات إلى منتصف السبعينيات.. وهى اللحظة التى بدأ فيها التحول مرة أخرى لصالح القلة الثروية وفق إجماع واشنطن الذى انطلقت فيه سياسات الليبرالية الجديدة، حيث عادت اللامساواة مرة أخرى.. وينتقد بحدة التحايل على استمرارها رغم الأزمات المالية المتكررة..

(4)

وحول اللامساواة يفرد المؤلف قسما مطولا حول ما أطلق عليه: «هيكلية اللامساواة»؛ وهو قسم غاية فى الأهمية، لأنه يشرح بدقة بنى اللامساواة على أكثر من مستوى: اللامساواة وتوزع تركز الثروة، اللامساواة وعائد العمل، اللامساواة وملكية رأس المال، ومستقبل اللامساواة فى الثروة الكونية فى القرن الـ21.. ويؤكد المؤلف أن اللامساواة سوف تستمر.. مالم يتم التدخل بتوجيه وتنظيم «رأس المال»، فى إطار ما أطلق عليه: «الدولة الاجتماعية» Social State، التى عليها أن تتخذ العديد من الإجراءات فيما يتعلق بالضرائب والدين العام…الخ.

الكتاب جدير بالقراءة والنقاش، خاصة مع إطلالة السياسات الليبرالية الجديدة المعدلة، على أن تطل من جديد بغير أى مراجعات على ما أوصلتنا إليه..

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern