أبنية الظلم

(1)

هو مش احنا عملنا ثورة، مفيش حاجة اتغيرت!.. هكذا صاح الشاب- الذى يقوم بخدمة الزبائن من مرتادى المطعم الذى يعمل فيه- عندما رآنى مع بعض الأصدقاء.. فقلت له: لماذا تقول ذلك؟ وبدأت فى الحديث عن موقف المصريين من الاستبدادين السياسى والدينى، وكيف تم كسر حاجز الخوف وأصبح الجميع قادرا على أن يعبر عن نفسه وأن يحتج ويطالب بحقوقه و…و… إلخ،

لم يقاطعنى الشاب قط، وتركنى أتحدث، حتى استشعرت أننى أطلت وأنه من الواجب أن أستمع له وأتفهم مقولته، خاصة أن ملامح وجهه عكست رسالة صامتة لى بأننى لا أشعر بما يعانيه الشاب وعبر عنه.. فقررت الصمت والاستماع إليه، بعد أن اعتذرت له على أننى أطلت ويهمنى- بحق- أن أعرف ما يقصد.

(2)

شعرت بامتنان الشاب لأننى سوف أسمعه، كذلك أدركت مدى سعادته بأنه نجح فى أنه سوف يقول لى ما لا أدركه، وأنا من أقضى وقتى فى محاولة فهم ما يحدث وتفسيره.. انطلق الشاب بلغة لا تخلو من منطق وببساطة.. هل تعلم يا بيه أننى أعمل «بأربع أرواح»، فلقد ترك المكان كثير من العاملين، نظرا لتجميد الرواتب على مدى سنتين، كذلك عدم صرف الأرباح المستحقة للعاملين.. ما دفع كثيرين إلى ترك العمل، إما لأنهم يعملون- أصلاـ باليومية دون أى امتيازات، وبات العمل بسبب مصاريف الانتقال والمظهر لا يعوضهم التعويض المناسب وهو أصلا أقل من المناسب.. أو لأن الإدارة لا تلتزم بأن تعطى العمالة القديمة حقوقها من أرباح أو أنها لم تزد الرواتب منذ أكثر من سنتين، وهناك من سُرِّح بسبب أنه كان «موقعا» على استمارة 6 وقتما عُين، ومن ثم سهل «تسريحه».. وعليه، ولأننى- يقولها بألم- محتاج أن أعمل وأن أرضى «بقليله»، شارحا أسباب ذلك، وأن يقوم بعمل من تركوا المكان دون زيادة فى الأجر أو الحصول على أى امتياز.. وبعد الدخول فى تفاصيل العمل ومدى الجهد المبذول، صاح فىَّ الشاب، متسائلا: «يرضى ربنا ده؟!»، وقبل أن أجيب استطرد بحزن: «ده ظلم والله».. وصمت فجأة.. لم أجد ما أرد به.. وترددت لوقت وسألت نفسى ما المطلوب منى أن أفعل فى واقعة دالة من هذا النوع.. ووجدتنى أعقب بطريقة نمطية، سرعان ما أجهز عليها الشاب.

(3)

قلت له: لا تنس أن أحوال البلد قد أثرت على كل شىء وأنه ربما.. وقبل أن أكمل قال: «يا بيه المكان لم يتأثر»، و«زى ما انت شايف المكان عامر بالزباين، ولكن رب العمل لا يريد الالتزام بشىء من قواعد العمل».. وهو مش مفروض يا بيه الثورة تنصفنا؟…فاجأنى بهذا السؤال: الذى- فى واقع الأمرـ يفسر مقولته الاستهلالية.

(4)

لم يزل ما نادى به المصريون من كرامة إنسانية وعدالة اجتماعية وعيش وحرية لا يتجسد فى الواقع، وأن الأمر أعقد من النصوص التشريعية والقانونية.. إنها سطوة ما يمكن تسميته «أبنية الظلم».. نعم قد يكون المجتمع تحرر وبات يستطيع أن يعبر عن نفسه- بدرجة أو أخرى- إلا أنه لم تزل هناك أبنية تعيد إنتاج الظلم وتحول دون تحقيق العدل وإنصاف المواطنين، ضاربة بعرض الحائط كل ما هو متعارف عليه من قواعد منظمة لعلاقات العمل.. وعليه لابد من تفكيكها وإعادة تكوينها على أسس عادلة تضمن أن يكون الوطن محلا للسعادة للجميع دون تمييز.. وأنه لا يمكن تعويض هؤلاء بالإعانة وبحاصل «البقشيش»… إلخ، إنها المهمة العاجلة والحالة.

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern