المجتمعات الحية هى التى تُخضع، دومًا، أفكارها ونضالاتها وخبراتها للبحث والمراجعة.. فهى تعيش حالة حيوية على المستويين الفكرى والتطبيقي، تتجسد فى إبداعات مستمرة.. وهذا يحتاج إلى عملية متواصلة من التقييم الذاتى.. لا فكرة، ولا عمل إبداعىّ، ولا إنجاز من أى نوع، ولا شخص، ولا موضوع، ولا حدث، ولا إجراء- فوق النقد. لا قداسة فيما هو نسبى.. لا بطولة مطلقة لشخص بمعزل عن السياق المجتمعى، بما يحمل من تركيبة اجتماعية وطبقية، وملابسات وظروف وتوازنات سياسية وثقافية، وتأثيرات إقليمية ودولية.. وعليه نجد العقل، بالمعنى الواسع للكلمة، فى المجتمعات الحية الحيوية- حاضرا بقوة، دون إقصاء للمشاعر، كما هو شائع، حاضرا ليعيد النظر من أجل مستقبل أفضل.
أستطيع أن أقول ذلك بكل «أريحية»، من خلال مشاهدات ومشاركات فى فعاليات متنوعة فى أوروبا.. كيف تتم إعادة النظر فى نابليون: الإمبراطور المواطن فى مجلد كبير لدوره الفرنسى الأوروبى، وفى الحرب العالمية الأولى فى ذكراها المئوية (1914- 2014)، من إخضاعها للبحث والتقييم.. فطول المدة لا يعنى إعطاء الظهر للتاريخ، إذ يضمن حيادية التقييم وموضوعية الدروس المستفادة.. بالإضافة إلى البعد الاحتفالى للمناسبة لتنشيط الذاكرة للأجيال الجديدة، بالأفلام الوثائقية البديعة، والدوريات الملونة المصقولة، وإعادة طبع المصادر المرجعية، مثل كتاب مارتين جيلبرت: «التاريخ الكامل للحرب العالمية الأولى» فى طبعة شعبية.. وربط كل ذلك بالواقع ووضع التصورات حول المستقبل. . وهنا تجد كمًّا من الكتب والدوريات والبرامج التليفزيونية العميقة التى تصدر حول الرؤى الاستراتيجية المستقبلية للعلاقات الدولية.. ونشير إلى دورية رفيعة المستوى تصدر مشاركة بين: وزارة العلم والتعليم العالى وإدارة الدبلوماسية الثقافية والشعبية بوزارة الخارجية فى بولندا، متخصصة فى شؤون شرق أوروبا الجديد، حيث يجد فيها المرء نكهة أخرى غير التى تعودنا عليها تاريخيا من خلال الدوريات الأمريكية المعروفة، مثل فورين أفيرز أو أمريكان إنترست.. القارئ لها يدرك كم هى بائسة كثيرة من التحليلات- المحليةـ التى تتناول روسيا وشرق أوروبا، والعالم الجديد الآخذ فى التشكل، المتجاوز زمن الحرب الباردة التى لم يزل البعض يتحدث عنها بثقة شديدة.
ولا تمنع الضرورة، أو الأوضاع الاقتصادية الحرجة فى العالم، من تأمل كيف يمكن الخروج من محنة الاقتصاد المعولم.. فنجد كتاب توماس بيكيتى المعنون: «رأس المال»، حول رأس المال ومستقبله فى القرن العشرين، وكيف يمكن تجاوز منظومة «اللامساواة» وأسبابها بسبب السياسات الاقتصادية الممتدة عبر عقود منذ ما يعرف بإجماع واشنطن.. والكتاب من الكتب التى تجد رواجا كبيرا فى أوروبا.. إن مواجهة الضرورة تحتاج إلى عقل جماعى «مُعصرن» (إذا جاز التعبير) لمواجهة الأزمات، وبخاصة الاقتصادية.. لذا نجد عقولا مثل أمارتيا صن وبول كروجمانوسور وسوستيجليتز، يحاولون الاجتهاد فى مواجهتها، فنجد الإيكونوميست تخصص عددها الأخير (12- 18 إبريل) لتلقى الضوء على تاريخ الأزمة المالية والاقتصادية العالمية، عبر خمس أزمات، وكيف يمكن منع القادم منها.
الحيوية تمنح الحياة عمقاً وتجدداً.. وتأتى الحيوية بالتساؤل ورفض الواقع بالبحث عن حلول مبدعة، وفق منهجية علمية غير نمطية.. هذا ما يمكن أن نوجزه لمشاهدات ومشاركات متنوعة فى بلاد الفرنجة.. بالمناسبة لا يقتصر الإبداع على أحوالهم، ولكن يمتد ليناقش مسائل انتفاضات الشرق الأوسط من منظور غير تقليدى، وهو ما يمكن أن نلقى الضوء عليه لاحقاً.