مصر بين التعاظم والتقاسم

(1)

أحد أهم الدروس المستفادة من قراءة تاريخ مصر، أنه عندما تكون مصر ناهضة وقوية ومزدهرة ولديها مشروع للتقدم ينعكس ذلك على السياق المجتمعى بعلاقاته المتعددة، وعلى الاقتصاد، والفن، والعلوم، والمعارف،.. إلخ.. والعكس صحيح، فكلما تراجع المشروع النهضوى المصرى، نجد مصر تغرق فى التخلف والتدهور والترهل على كل الأصعدة..

وقد درست ذلك تفصيلا فى كتابى الأول: «الحماية والعقاب: الغرب والمسألة الدينية فى الشرق الأوسط، 2000، فى معرض تتبعنا للعلاقات بين المصريين من المسيحيين والمسلمين من جانب، والتدخل الغربى من جانب آخر.. فكلما كانت مصر «بخير» نجد المصريين يلتفون حول المشروع النهضوى بدرجة أو بأخرى، وتنضبط العلاقات فى الواقع الاجتماعى.. ومتى تراجع المشروع النهضوى نجد ذلك ينعكس سلبا على العلاقات حيث تدخل مصر فى سلسلة من التوترات المتعددة الأشكال.. وما يهمنى أن ألقى الضوء عليه فى هذا المقام هو ما يمكن أن نطلق عليه جدلية أو معادلة: «التعاظم والتقاسم»؛ تعاظم وتقاسم مصر بالطبع.. ما الذى أقصده بذلك؟

(2)

المتتبع للمسيرة التاريخية لمصرنا المحروسة سوف يجد أنه ما إن ينحدر مشروع «تعاظم» مصر، حتى نجد مصر تدخل فى سلسلة متواصلة الحلقات من محاولة «تقاسمها» من قوى من خارجها.. جرى هذا على مدى العصور.. وإذا أردنا أن ندلل على ذلك ـ ولظروف المساحة ـ سوف نذكر ـ فى كلمات ـ ما جرى فى مصر الحديثة بعد أن تراجعت مشروعات التعاظم المصرية لكل من: محمد على ومشروعه للدولة الحديثة المصرية، ومحاولات إسماعيل التجديدية المدنية، وثورة 1919 ومشروعها الناجح فى المزاوجة بين التحديث والحداثة وتأسيس مدارس قومية فى كل المجالات، وعبدالناصر وتأسيسه لقاعدة صناعية غير ضخمة.. حيث كانت مصر تتعرض للتقاسم ـ بحسب التسلسل التاريخى ـ من: الباب العالى، والقوى الاستعمارية، أو من خلال الرقابة الثنائية، أو بالاحتلال المادى المباشر، أو من خلال قوى داخلية تابعة للخارج، أو بالاعتداء على أراضيها، أو بالهجوم على حدودها أو بالعنف الدينى لصالح قوى خارجية، أو بالإلحاق الاقتصادى، أو بالتضييق الدولى عليها فى شتى المستويات،.. إلخ.. ولا يمنع أنه فى مرات كثيرة عبر التاريخ تحالف/ تداخل أكثر من عنصر معا من أجل تحقيق «تقاسم» مصر.

(3)

مما سبق، وددت أن ألفت النظر إلى أن ما تتعرض له مصر هو أمر طبيعى.. ولكنه ليس قدرا علينا أن نقبله كما هو.. وإنما قبل ذلك علينا أن ننتبه إليه وإلى ملابساته وآلياته، وأن نعى كيف نواجهه ونقاومه وننتصر عليه.. ففى كل مرة ينحسر فيها «تعاظم» مصر، ويظن من يظن أنه قادر على تقاسم مصر ويشرع فى ذلك عمليا، كان المصريون يقومون مرة أخرى رفضا للتقاسم، ويبدأون فى صنع دورة جديدة من التعاظم وهكذا.

(4)

والعبرة أن نعرف أن انطلاقات دورات «تعاظم» مصر تبدأ من الداخل.. وبالمصريين أصحاب المصلحة الأولى فى هذا التعاظم.. وبتعبئة الموارد الذاتية، وإعطاء الفرصة لأصحاب الرؤى التغييرية الوطنية أن يقودوا مشروع التعاظم لصالح الجميع لا القلة.

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern