(1)
من الملاحظات المهمة التى لا تخفى على أى متابع للأحوال السياسية فى العالم، انخفاض نسبة المشاركة السياسية فى كل مستوياتها: البرلمانية والمحلية.. ولعل المتابع للانتخابات المحلية التى أجرتها فرنسا فى الأيام القليلة الماضية سوف يلاحظ المستويات المتدنية لنسبة المشاركة السياسية من إجمالى من لهم الحق فى التصويت.. وحول هذا الأمر تدور الكثير من النقاشات الجدية، منها ما يحاول أن يلفت إليه النظر فى كتابه: «ديمقراطية جديدة.. لمجتمع المعلومات»، (دار العين للنشر)..
حيث يشير إلى أن أمراض الديمقراطية ستظل معنا أو أننا سنبقى فى شوق إليها مهما نفذنا إجراءاتها بدقة، ذلك لأن واقعنا المجتمعى بكامله قد انتقل إلى نظام حضارى جديد، بينما لانزال بوجداننا وفكرنا وممارساتنا نعيش فى ظل نظام قديم هو نظام عصر الصناعة.. ما دلالة ذلك؟
(2)
دلالة ذلك هو أننا فى كل طرق ومسارات حياتنا لم نزل نعيش وفق قواعد نظام قديم.. فالتعليم يفترض تخريج دفع من المتعلمين تكون ذات طابع واحد لا تمايز بينهم، لأن تعليم النظام الصناعى يقوم على أمرين هما: «التنميط»، و«صلاحية جودة» واحدة، ومن ثم فالدفعة تتشابه مع المنتج الصناعى «كلها مختومة بختم واحد».. بينما التعليم فى نظام تجتاحه تكنولوجيا المعلومات والاتصال فإن كل تلميذ وكل طالب يصبح عالماً مستقلاً بذاته.. نعم يربط بينهم الموحدات البيولوجية، إلا أن هناك الكثير مما يختلفون فيه.. ينصب هذا الأمر على كل شىء، من ضمن ذلك مسألة الديمقراطية.
(3)
ممارسة الديمقراطية وفق قيم المجتمع الصناعى تختلف جذرياً عن ممارستها وفق مجتمع المعلومات.. ويرصد المؤلف ثلاثة عناصر: الأول: «أفول الأغلبية»، الثانى: الديمقراطية شبه المباشرة، أما الثالث: إعادة توزيع سلطة اتخاذ القرار.. بالنسبة للأمر الأول فإن الأغلبية بمعناها التاريخى تم تجاوزها بتحالف الأقليات فى مجموعات صغيرة مؤثرة عبر وسائل تقنية ذات فاعلية حاسمة.. أخذاً فى الاعتبار أن تعبير الأقلية هنا لا يعنى الأقلية بمعناها العرقى المتعارف عليه، وإنما إمكانية أن يؤثر التئام عدد قليل من البشر، على قدر من التنوع الكبير، حول قضية معينة، بفعل قدرتهم العالية على استخدام تقنيات اتصال حديثة على الرأى العام وعلى صناعة القرار فى النهاية.. فالأغلبية البرلمانية بمعناها الكلاسيكى انتهت صلاحيتها، خاصة إذا ما كانت تنحاز إلى موضوع من الموضوعات من منطلق أيديولوجى أو دينى.. إلخ.
(4)
أما العنصر الثانى من ديمقراطية عصر المعلومات فتقوم على التحول من الاعتماد على من يمثلوننا فى المجالس النيابية، إلى تمثيلنا لأنفسنا.. ويصنع المزيج بين تمثيل الآخرين لنا، وتمثيلنا لأنفسنا، ما يعرف بـ«الديمقراطية شبه المباشرة».. فلقد صار «الناخب» يعرف أكثر من «النائب».
(5)
أما الأمر الثالث المتعلق بالشراكة فى اتخاذ القرار، فيعنى تقاسم اتخاذ القرار بين القمة والقاعدة.. أخذاً فى الاعتبار هذا التنامى غير المسبوق للكتل الشبابية والتى تحمل تنوعاً غير مسبوق فى التاريخ البشرى.. ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد.. فلن تستطيع البشرية أن تقبل مؤسسات النظام القديم كما هى- قد تقبلها فى البداية- ولكنا قطعاً سنحتاج إلى مؤسسات جديدة وإلى تطور عميق فى أسرنا ومؤسساتنا التعليمية والإعلامية والثقافية، كذلك مؤسسات النشاط الاقتصادى كى تستجيب ممارسات الديمقراطية الجديدة فى ظل نظام جديد، سيكون للمجتمع المدنى فيه دور كبير.