(1)
أكتب هذه الكلمات قبل يوم من نهاية العام.. وعقب مشاهدتى- بالمصادفة- لفيلم أمريكى حديث بعنوان «360».. وقد احترت فى البداية حول دلالة العنوان.. وحاولت قدر الإمكان أن أستنتج ما الذى يعكسه الرقم.. استدعيت كل ما أختزنه من عشق للسينما أن أتوقع حول ماذا يدور الفيلم، كنوع من التهيئة الذهنية والنفسية للمشاهدة، وكتمرين لاختبار خبرتى السينمائية فى توقع نوع الفيلم.. وأعترف أننى لم أنجح بالمطلق.. ولم أجد أمامى إلا أن أجلس فى سكون لمشاهدة الفيلم وأحتمل بدايته الغريبة التى توحى بالكثير والتى تشتت الذهن حول مسار الفيلم لاحقا.. فتدفع المرء، أولاً: إلى تصور أن الفيلم سياسى- بامتياز- وأنه سوف يناقش مشاكل اجتماعية لشباب ما كان يعرف بأوروبا الشرقية.. ثم ثانياً: تدفعك البداية أيضاً إلى تصور أن الفيلم سيدور فى عالم رجال الأعمال وكيف تعقد الصفقات قسراً..
وثالثاً: يظن المرء أن الفيلم سوف يناقش عدداً من العلاقات العاطفية والنفسية المعقدة فى مجتمعات أوروبية ثم أمريكية مع ارتحال بعض الشخصيات إلى أمريكا وإلى البرازيل، وظهور شخصية عربية ضمن الشخصيات التى كانت تظهر تباعاً تعيش فى باريس.. وبعد.. وجدت نفسى أمام عالم حى من الشخصيات المتنوعة والتى تنتمى لأكثر من ثقافة وجيل.. إلخ، والأهم أنها شخصيات حية من: «لحم ودم».
(2)
شخصيات سوف نجد أنفسنا- حتماً- فيها: كاملاً أو فى موقف من المواقف، أو فى قرار من القرارات، أو.. إلخ.. الفيلم لم يقدم قصة درامية نمطية تتحرك منه نقطة بداية وتصل إلى ذروة ثم نهاية.. وإنما الفيلم هو مجموعة من المشاهد الأفقية المتتالية لعدد من الشخصيات لا تعرف بعضها البعض، يلتقى كل اثنين معاً بشكل عابر فى مطار أو فى طائرة أو فى عمل مشترك أو مقهى أو فى عرض الطريق.. إلخ.. إلا أن اللقاء دوماً يثير الكثير والكثير حيث يخلق لحظة لدى الشخصيات تكون بمثابة «مفترق طريق»، للشخصيات، ومن ثم عليها أن تختار أن تسلك طريقاً جديداً.. كيف؟
(3)
فى كل مشاهد اللقاء المختلفة بين الشخصيات، تحدث مواقف تستنفر كل ما بداخلها من تحيزات وتصورات وتصرفات وأفعال.. إلخ،.. ويصبح كل شخص مرآة للشخص الآخر يرى فيها نفسه بوضوح شديد، ما يدفعه إلى ضرورة أن يسلك مسلكاً جديداً.. حيث من الصعوبة بمكان أن تستمر الشخصية كما كانت، ومن ثم عليها أن تبدأ بداية جديدة، مهما كان الثمن، ومهما كانت التكلفة.. فبقاء الإنسان أسير واقعه دون تجديد يؤلم كثيراً.. حيث إن كل منا يحتاج إلى أن يكتشف نفسه وأن يعيد النظر فى واقعه، ما يعنى العودة إلى نقطة البدء التى بدأنا منها، عندئذ نصبح فى مفترق الطرق: إما أن نبدأ بدءاً جديداً أو نظل مكاننا نجتر ما نفعل.. وربما هذا هو المقصود باسم الفيلم «360».. فالإنسان منا فى لحظة ما يحتاج أن يدور دورة كاملة مع نفسه (360 درجة أو العودة لنقطة البدء) كى يمنح نفسه فرصة «تحرك جديد» أو «البقاء فى المكان».. وليس أفضل من بداية العام الجديد لنسلك مساراً جديداً أفضل.