الجمهورية أو مصر الجديدة: الأسس والمبادئ.. هو عنوان الدراسة التى كتبتها مبكرا عقب حراك 25 يناير والتى نشرتها على حلقتين فى جريدة الشروق يونيو من عام 2011. وقد كنت آنذاك متأثرا بالزخم الذى أحدثه الحراك الشبابى فى رفض الاستبداد السياسى متمثلا فى إسقاط حاكم مصر. وحاولنا فى هذين المقالين أن نرسم صورة للمستقبل فى ضوء ما جرى من تحولات فى سياق عملية تحول ربما تكون الأهم منذ تأسيس الدولة الحديثة فى مصر.
منذ ذلك الوقت، جرت مياه كثيرة، ودخلت مصر فى أكثر من «دورة انتقالية» Cycle of Transition، وهو تعبير بتنا نستخدمه للتأكيد على أن مسيرة التحول فى مصر قد سارت فى أكثر من دورة وأن لكل دورة لها طبيعة مغايرة من حيث توازن القوى لأطراف المعادلة السياسية. إلى أن جاءت «تمرد» لتعبر عن رفضها للاستبداد بتجليه الدينى. وكما أثار «الحراك» الكثير من الجدل حول طبيعة الجمهورية الجديدة التى نحلم بها خاصة مع فتح كل الملفات المسكوت عنها فيما يتعلق بتطور مصر السياسى، أثار «التمرد» الكثير حول الدولة المصرية الحديثة من حيث: أولا: طبيعة نشأتها، وثانيا: الأعمدة التى قامت عليها والتى عبرنا عنها فى الكثير من كتاباتنا، بأنها قامت على ثلاثية: الضابط، والموظف والتكنوقراط، أو بلغة أخرى على الجيش والجهاز الإدارى ومؤسسات الحداثة المتنوعة، وثالثا: مسيرتها، ورابعا: تحولاتها السياسية. وهنا كان من الأهمية بمكان أن نعود إلى بعض الرؤى/ المشروعات الفكرية التى تناولت مصر الحديثة كيما نسترشد بها ونحن نعبر إلى الدورة الانتقالية الجديدة المثخنة بالكثير من الجروح.
•••
فى هذا السياق، يأتى حديثنا عن مصر الجديدة هذه المرة فى ضوء مسيرة الدولة الوطنية الحديثة فى مصر وكيف تناولها رواد الفكر المصرى المعاصر من أصحاب المشروعات الفكرية الحقيقية. وهنا نقدم رؤية أنور عبدالملك من خلال كتابه العمدة «نهضة مصر»: تكون الفكر والأيديولوجية فى نهضة مصر الوطنية»، فى محاولة أن نقدم تفسيرا لما يحدث فى مصر الآن، وهاديا لحركتها المستقبلية.
نقطة البدء لديه هى كيف يمكن أن نقيم القوة الذاتية لوطننا؟. الإجابة لابد أولا وقبل كل شىء تحديد الخصوصية المصرية المتميزة؛ وهى بيت القصيد فى جميع صراعات تاريخنا الألفى: أقدم المجتمعات المائية التى عرفها التاريخ على أرض سهلة، تحت سماء صفو، محوره النيل العظيم، وحدوده آسيا وافريقيا، ثم فى الشمال أوروبا الغازية عبر البحر الأبيض المتوسط. ارض طيبة خصبة، إلى درجة خيالية، تقع من حيث جغرافيتها السياسية بين الغرب والشرق؛ وعلى مفترق القارات الثلاث: الفرعونية، والقبطية والإسلامية العربية، فى بوتقة شهدت ظهور الديانات التوحيدية الثلاث، وأقدم الفلسفات، فى تواز مع فلسفة الصين فى القطب الثانى للدائرة الحضارية الشرقية، التى كانت مصر، ولاتزال، قطبها الأول. ومن ثم تحددت عبر السبعين قرنا خصوصية مصر المتميزة الاتجاه إلى الوحدة التوحيدية، إلى وحدة الوطن، وحدة المجتمع، وحدة العمل والفكر، وحدة السلطة. إنها اقدم المجتمعات الموحدة كافة، واتصالا واستمرارية، وأكثرها تجانسا، من جميع النواحى، البشرية والفكرية والوجدانية معا، وكذا أقدم المجتمعات التى أثارت الشهوات والغزو، لا للسلب والنهب فقط، وإنما لتخريب هذا المفتاح الفريد للمبادرة التاريخية والإبداع الحضارى. وهكذا ومن خلال صياغة دوائر الضرورة التاريخية، تكونت الخصوصية المصرية المتميزة المتجهة دائما إلى التركيب فى آن واحد. خصوصية تتدرج عبر تاريخ ألفى، ومن ثم تتسم بمفهوم خاص للزمان بوصفه الأكثر شمولا: عبره نمر، تسير مسيرتنا، ومن خلاله، ومن خلال هذا العبور، تتحقق معالم الشخصية، تتأكد رسالتها، ويتعمق أداؤها رغم جميع الأحزان، رغم جميع الانكسارات. «مصر المحروسة» حقيقة، «أم الدنيا» التى تغنى بها ابن خلدون.
تلقف هذا محمد على، كرصيد حضارى، انطلق منه لبناء نهضة مصر: الدولة الوطنية المصرية الحديثة. ويقول أنور عبدالملك إن مقومات هذه الدولة كانت تقوم على الجمع والتركيب بين: «العلم والحرية، والمصنع والسلاح فى إطار مشروع حضارى عظيم»؛ ومستقل. ويشير عبدالملك إلى أن ناصر اقام نهضته أيضا على هذه المقومات والتى مكنته من أن ينطلق بفائض اقتصادى أُنجز فى إطار مشروع اقتصادى شامل إلى مجالات حركة متعددة (راجع دراستنا العروبة فى المرحلة الراديكالية).
•••
ويسجل أنور عبدالملك أن نهضة مصر الوطنية: فكريا، تتميز بصعود للتيارين: التحديثى والاصولى الحضارى. وبقدر ما يتفاعلا ويتواصلا معا، بقدر ما يدعم ذلك باتجاه النهضة الوطنية المصرية. وتعد الدولة الإطار الجامع لهما فى انجاز الحداثة دون خصومة مع الخصوصية الحضارية المركبة المصرية.
وتبدأ الإشكالية عندما تحدث الخصومة بين هذين التيارين، وهى خصومة عندما تحدث تمتد إلى داخل كل تيار ما ينتج عن ذلك تيارات فرعية أكثر تشددا وتصلبا، وهذا هو درس التاريخ، وبالأخير تدفع الدولة بالمعنى الواسع لمفهوم الدولة الثمن. وهنا، أظن، تنتقل مصر من النهوض والتعاظم إلى الانحدار والتقاسم.
ويستخلص أنور عبدالملك فى نهاية دراسته التاريخية التفصيلية لقرن من الزمان من عمر مصر والتى تأسست فيها دولتها الحديثة الوطنية (600 صفحة)، عددا من الأمور مفادها وهو يتوجه بذلك إلى المستقبل أنه لا تقدم بغير ما يلي:
أولا: إقامة اقتصاد وطنى يتسم بسيادة الدولة، ثانيا: الاستقلال الوطنى وفى القلب منه الاقتصاد الوطنى، ثالثا: الوعى ببناء تشكيلات اجتماعية اقتصادية واعية تدفع بتقدم البلاد، رابعا: طرق المجال الثقافى المعرفى بامتلاك جديد المعرفة من خلال البعثات العلمية والترجمة، خامسا: إقامة نظام تربوى حديث، سادسا: إقامة مشروعات كبرى، سادسا: تعميق علم المصريات لإدراك الذات القومية والشخصية الوطنية من خلال إعادة قراءة الرواية التاريخية وإخضاعها إلى العلم والتوجه من هذا المنطلق إلى الانفتاح على العالم بدوائره، أى تجديد مهمة الطهطاوى التاريخية، سابعا: تجديد التمييز بين الوطن والأمة، ثامنا: تعميق الحركة الدستورية وفى سياقه يتم تجديد مؤسسات الدولة والمجتمع واستحداث ما يطلبه التقدم، تاسعا: خطاب دينى عصرى، عاشرا: فكر تقدمى كما كان يقدمه الطهطاوى وتلامذته يتمثله مثقفون يقومون بلعب دور الجسر بين الجماهير الشعبية والمثقفين التقدميين والثوريين كما جسد هذا الدور النديم عمليا.
ما سبق هو بعض من التصورات التى يمكن أن نستخلصها من عمل أنور عبدالملك الموسوعى: «نهضة مصر» من أجل مصر جديدة فى ضوء التراكم التاريخى.