ما رأيك أيها القارئ أن نبتعد قليلا عن مشهدنا السياسى… وكما هى عادتى فى مقالات نهاية العام فى تواصلنا عبر الشروق، نحاول أن ننتقل إلى حالة أخرى وموضوعات مختلفة لا «تنظيرات» أو «تحليلات» مغرقة فيها… لماذا لا نقدم شاعرا تحل ذكرى رحيله الأربعين فى هذه السنة: إنه «بابلو نيرودا»، شاعر تشيلى الكبير… أجده أمامى فى كل وقت وخاصة عندما أحاول الاطلاع على تجارب التحول الديمقراطى فى أمريكا اللاتينية… فهو دائم الحضور بشعرِه الملحمى الذى تجاوز به وطنه إلى كل أوطان قارته، وجعلها رمزا لكل وطن لم يزل يناضل من أجل حريته ومستقبله. فهو القائل بصوت هادر لكل مواطن يهدف إلى العدل.
لنسير مزودين بالمعرفة،
ولنلمس الصراط الصحيح
بتصميم مشحون، إلى ما لا نهاية، بهدفنا،
ولتكون الشدة شرطا للسعادة،
فهكذا نصبح قوة لا تهزم…
هذه بعض الأبيات الشعرية ضمن ما يقرب من خمسة عشر ألف بيت شعرى تمثل الديوان الشعرى الأهم فى تاريخ الشعر الانسانى فى القرن العشرين، والذى يتكون من 15 فصلا تتضمن 249 نشيدا. إنه ديوان «النشيد الشامل» لشاعر تشيلى الكبير «بابلو نيرودا» (1904 – 1973)، الذى كتبه فى الفترة من 1938 إلى 1950، وعنه حصل الشاعر على نوبل للآداب فى عام 1971.
أصطحبك صديقى القارئ، ونحن على أعتاب نهاية عام وطلة آخر جديد، فى سياحة إلى هذا العمل العميق والبديع… من جهة لنبتعد قليلا عن المشهد السياسى «السائل» بنقاشاته الحدية السطحية والاجترارية من زمن فات، ومن جهة أخرى لنطل على تجربة شعرية تعكس خبرة نضالية نتعلم منها وندرك من خلالها وحدة الخبرة الإنسانية فى مواجهة الظلم والاستبداد والفساد.
النشيد الشامل، ليس مجرد ديوان كبير الحجم ولكنه عمل «ملحمى»: انسانى وتاريخى عن أبناء القارة اللاتينية، ينتقل فيها الشاعر من شعر الأساطير إلى شعر يحتضن الأوطان التى تناضل شعوبها ضد «الجلادين» و«الأباطرة» و«المستغلين» و«المفسدين»، ولا ينسى الشاعر «المستعمرين» الذين استباحوا القارة. يتابع هذه الملحمة فى كل دول أمريكا اللاتينية، يدون كل شىء، ويرصد كل موقع ويجعل المكان: بأحجاره وثرواته الطبيعية وأنهاره وأشجاره وزهوره وحوانيته بما تضم من حرف متنوعة، شهودا على الانسان البسيط فى نضاله من أجل حياة كريمة آدمية.
إنه كتاب يؤرخ لكل تفصيلة من تفاصيل نضال القارة، وبحسب مترجم النشيد الشامل إلى العربية: صالح علمانى بأنها: «نظم تأريخى شامل». لم يكتب «نيرودا» ديوانه فى مكتبه، بل انطلق يكتب أبياته الشعرية وهو ملاحق من رجال أمن الديكتاتور التشيلى «فيديلا» سنة 1938. كان ينتقل من مكان إلى مكان هاربا، وفى كل انتقال كان يلتقى بشرا وأماكن، ويتعرف على أحوال الناس، ويفهم الواقع من مصادره الأساسية الحية الطبيعية. عن مدى الظلم الذى يقع على جموع الناس، والقهر الذى يتعرضون له، والحصار الذى يمارس ضدهم بفعل التحالف السلطوى الأسود: السياسى والدينى والاقتصادى.
هناك عشرات بل ربما مئات ما يمكن أن نقدمه من «النشيد الشامل»، ولكننا سنركز على الفواعل الرئيسية التى يتناولها الشاعر باعتبارها «الفواعل» الأساسية فى الواقع اللاتينى والمحددة فى ضوء تشابكها للواقع. بيد أن الشعب: الشجرة الثابتة عبر التاريخ قادرة دوما على أن تنتصر مهما طال الأمد.
نقتطف بعض الأبيات من النشيد الشامل تتأملون فيها مع نهاية العام، وأتمنى أن تتاح الفرصة للاطلاع على النشيد الشامل بكل ما يتضمن.
أولا: عن الذين «يحررون» الأوطان يقول بابلو نيرودا:
«هى ذى الشجرة، شجرة/ الإعصار، شجرة الشعب/ من الأرض يصعد أبطالها/ مثلما تصعد الأوراق من النسغ،/ومثلما تهشم الريح الأوراق/ تهشيما متعددا مدويا، إلى أن تسقط بذرة الخبز/ فى التراب من جديد/ هى ذى الشجرة الشجرة/ المغتذية بأموات عراة،/ بأموات جرحى ومجلودين، رفعوا على سنان رمح،/ وتلووا فى الأتون، ضربت أعناقهم بالفأس،/ مزقتهم الجياد، أو صلبوا فى الكنيسة.
هى ذى الشجرة، شجرة/ الجذور الحية،/ التى امتصت الأملاح من الشهيد،/ وعبت جذورها الدماء،/ واستخرجت دموعا من التراب: ثم رفعتها فى غصونها،/ لتوزعها فى بنيانها/ فكانت أزهارا خفية أحيانا/ أزهارا مدفونة،/ وفى أحيان أخرى كانت تُويجاتها تضىء مثل الشهب… إنها شجرة الأحرار./ الشجرة الأرض، الشجرة الغيم،/ الشجرة الخبز، الشجرة السهم،/ الشجرة القبضة، الشجرة النار./ تغرقها المياه المائجة،/ مياه عصرنا الليلى، لكن صاريها يتأرجح راسما/ ميدان سلطتها./ وأحيانا أخرى، تسقط من جديد/ الأغصان التى سحقها الغضب، ويغطى جلالها القديم رماد متوعد/. هكذا عبرت من أزمنة أخرى، /هكذا خرجت من الاحتضار،/ إلى أن أتت يد سرية،/ وسواعد لا عد لها،/ سواعد الشعب، فحفظت أجزاءها/ وخبأت جذوعها الراسخة./ وكانت شفاه الشعب / هى أوراق الشجرة الضخمة المقسمة،/ المبعثرة فى كل الأنحاء، السائرة بجذورها.
هذه هى الشجرة، شجرة الشعب/ وشجرة كل الشعوب/ شجرة الحرية والنضال./ انظر إلى ضفائرها: لامس أشعتها المتجددة…لندافع عن دفع تُويجاتها،/ بدد الليالى المعادية، واحرس دورة الفجر/ وتنسم الأعالى المتألقة بالنجوم،/ حاميا الشجرة، هذه الشجرة. التى تشمخ فى هذه الأرض.
وثانيا: يتناول نيرودا (تفصيلا)، كلا من: الجلادين» و«الأباطرة» والنخبة» و«المتمسحين بالدين» و«الاحتكاريين الثرويين» فيقول عنهم «نيرودا» ما يلى:
فمازلوا حتى اليوم،…/ ضباعا نهمة/ لتاريخنا، قوارض للرايات/ بدماء غزيرة ونيران وفيرة،/ غارقين فى مستنقع مشاريعهم،/ هؤلاء المتلفون الجهنميون،/ هؤلاء الأباطرة المباعون ألف مرة/ والبائعون المأجورون لذئاب نيويورك،/ إنهم مكائن فيها جوع للدولار، ملطخة بتضحيات شعوبها المعذبة،/ والتجار الفاجرون الذين يتاجرون بالخبز والهواء،/ أنهم مستنقعات سفاحة، وقطيع من المستبدين، لا قانون لهم سوى التعذيب والجوع العاصف بالشعب.
ويا أصحاب درجات الدكتوراه الفخرية/ من كولومبيا يونيفرستى،/ يا من تضعون الرداء الجامعى فوق الأنياب/ وفوق السكين/ يا ضوارى الحجرات اللعينة/ حيث تتعفن الأعمار الأبدية للسجين./ يا نسورا صغيرة يستقبلها المستر«ترومان» وتعود محملة بالساعات ومزينة بنياشين…/ يامن تستنزفون الأوطان،/ هناك واحد فقط يفوقكم شرا، واحد فقط أنجبه وطنى يوما.
أما هؤلاء الأثرياء الجدد:
فقد جعلوا الحرية تستبدل ثوبها وتتحول إلى متجر…/ فمن الأراضى التى زرعت لتوها/ خرجت سلالة، زمرة من الأثرياء الجدد: رسموا خطا أسود: نحن هنا، نحن أصحاب مطاحن المكسيك، وأشراف تشيليين ومتأنقو الجوكى كلوب فى بيونس أيرس، واستقلاليو أوروجواى المطاطيون/ ومتأنقو الإكوادور،
ومع ما سبق السادة الإكليروس (حراس المعبدوكهنته وشيوخه) فى كل مكان،
حيث يتم تقديس كل شىء، ( حتى الهوية)،( يتوعدون كل أحد مغاير) باللعنات المحرقة
فى ضوء المشهد الوطنى المعقد يرسل «نيرودا» رسالة إلى كل انسان/مواطن/شاب يقول لهم فيها…
أيها المواطن / الانسان
يا من لم تنم منذ أزمان وأزمان
ولم تجد العزاء، قط،
أيها الشاب المنتفض فى دياجير
ستلقى هبة وطنك العارى.
وفيه تولد ابتسامتك وتنمو
مثل خط فاصل بين النور والذهب….
كل عام وأنتم بخير… ونلقاكم على حرية وعدل إن شاء الله…