45 عامًا من التمرد الشبابى

عرفت فرنسا ثلاث ثورات تاريخية كبرى فى أقل من مائتى عام.. الثورة الأولى كانت ثورة على الملكية المستبدة.. والثورة الثانية كانت ثورة طبقية بكل ماتعنى الكلمة من معان انطلقت فى الثلث الأول من القرن التاسع عشر وظلت ممتدة ربما إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث استمر العمال والمستضعفون يناضلون من أجل حقوقهم… أما الثورة الثالثة فكانت ثورة الشباب والطلبة التى انطلقت فى مايو 1968، أى منذ 45 عاما، وكانت ثورة ضد كل الشموليات: السياسية والدينية والثقافية… وأظن أن تأثيرها لم يزل فاعلا إلى يومنا هذا.. لماذا وكيف؟

●●●

بداية لم تكن ثورة الشباب فى فرنسا ثورة فرنسية محض. فلقد كانت حقبة الستينيات تموج بالحركة والانتفاض فى أغلب عواصم العالم. فالصراع العالمى الذى حُسم فى الحرب العالمية الثانية بانتصار الحلفاء على المحور وانطلاق الحرب الباردة بين القطبين الكبيرين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتى قد أسفر عن شكل للعالم تم بتوافقات كونية. شكل للعالم هو أقرب للهندسة تم رسم ملامحه فى إطار مصالح عليا لم تلتفت إلى الأجيال الطالعة الشبابية التى تريد أن ترى عالما جديدا حرا بالفعل تتجاوز به ذكريات الحرب المريرة، وتشارك فى بناء هذا العالم وفق تصورات تعبر عنها من أجل مستقبل أكثر عدالة، وينعكس ذلك فى الأبنية المجتمعية المختلفة.

كان طلاب الجامعات هم نواة هذه الحركة الثورية فى كل مكان من العالم… فى الولايات المتحدة الأمريكية كانت حركة الحقوق المدنية والحركة المناهضة لحرب فيتنام، وفى أوروبا تعددت الحركات والانتفاضات. وكان السؤال ما قيمة التقدم العلمى والتكنولوجى إن لم يستخدم من أجل خير الانسان. حتى فى مصر كانت حركة الطلبة فائرة من أجل تجاوز الهزيمة التى أسقطت الكثير من الأحلام. ولكن الأكيد أنه لم يكن هناك سوى حركة الشباب كحركة بكر لم تلوث بعد ولم تدخل فى مساومات أو تواطؤات من أى نوع أن تقود حركة التغيير التى تجاوزت الاستبداد الملكى التاريخى والصراع الطبقى بصورته المباشرة إلى إزالة كل سلطة أبوية وشمولية تعوق التقدم مهما كانت.. لذا كان شعار الشباب فى 1968 هو:

● «كل شىء مباح»، و «المنع ممنوع»؛

تبنت حركة الشباب فى العام 1968،الدعوة إلى ضرورة إنهاء كل أشكال تبعية الشباب… وتأكيد فكرة الحرية فى شتى المجالات لأن هذا هو المدخل لتجديد المجتمع ومن ثم تأكيد وجودهم وحق تعبيرهم عن أنفسهم… ويعبر عن ذلك أحد الباحثين بقوله:

● انه الحلم بعالم مختلف؛ جديد… حقيقى… عادل… إنسانى

●●●

لقد أدى ترهل المؤسسات القائمة وعدم قدرتها على مواكبة تطلعات الأجيال الشابة الصاعدة التى ولدت مع نهاية الحرب العالمية الثانية إلى هذا التمرد العارم على كل ما هو قائم. لقد أثارت حركة مايو 1968 تساؤلات كبرى حول المجتمع بما يحمل من قيم وتوجهات ومؤسسات… وبهذا اقتنص الشباب حق إثارة التساؤلات من شموليات كانت تفوض نفسها فى ذلك وتحول دون أن يكون للشباب أى دور… هكذا رأى الشباب الأحزاب والنقابات ومؤسسات الدولة لا تضم إلا الموالين أو المقربين… فانتفضوا خارج هذه الكيانات التى اعتبروها ترهلت وتجاوزت صلاحيتها…

وخرج الشباب يعلنون عن أفكارهم على الجدران… ونشير إلى كيف عقدنا مقارنة منذ سنوات قبل 25 يناير بين جداريات شبابا 68 ومدونات شباب 2008 فى مصر وضرورة الاستجابة لما يطرحونه…كانت حركة الشباب فى 68 لديها أطروحات نقدية لكل شىء… وكانت كتابات هربرت ماركيوز وغيره توجه الشباب فى حركتهم التى رفضوا أن يكون لها قيادة بحسب ما هو متعارف عليه فى الأدبيات الثورية عن ضرورة وجود قيادة أو طليعة ثورية… ويشير أحد الباحثين (عصام محفوظ) إلى أنه كيف حرص الشباب على تجنب العنف واستخدام الثقافة أسلوبا للتغيير السياسى.

لذا وجدنا انتاجا فنيا يعبر عن توجهات الشباب مثل: فيلم نقطة زابريسكى لأنطونيونى و The Wall للفريق الغنائى البينك فلويد بالنسبة لأوروبا من جهة، و كتاب هوارد زين تاريخ شعب الولايات المتحدة وفيلم The Sixties من جهة أخرى، يعبرون عن التحولات التى حدثت فى حقبة الستينيات بتفاصيلها المثيرة والمهمة وكانت دافعا لتمرد شباب هذه المرحلة. كما بدأت موجة من الكتابات غير نمطية تكتب عن الناس والشعوب لا الحكام والبطاركة.

وتشير المراجعة لكثير من الكتابات التى كتبت حول ثورة شباب 68 إلى أنها أسست لحق الشباب فى أن يطرحوا الأسئلة وأن يدافعوا عن حقوق المواطنين فى مواجهة الشموليات القائمة…كما أكدت الدراسات أن ما أطلقوه فى 68 قد أثمر ولو بعد حين متمثلا فى المراجعات السوفيتية وفى كثير من الحركات القاعدية… والسبب هؤلاء الذين وصفوا بأنهم «صانعو الحلم»… الذى تحقق ولو بعد حين…

●●●

وفى الذكرى الـ45 لثورة الشباب الفرنسى/ الكوكبى… أتصور أن «فهما دقيقا لها ربما يفسر لنا الكثير مما يجرى الآن فى سياقنا». فبحسب أحد رموز هذه الحركة وهو يدلى بشهادة ذاتية حول الأحداث بعد عقود من وقوعها (يعمل أستاذا لعلم الاجتماع فى جامعة باريس السابعة) « إن اشكالية ما حلمنا به هو أنه يظل حلما مالم يترجم إلى رؤية واضحة لما نريد واقتراحات محددة وبرنامج واقعى حيث لابد من تحويل (اليوتوبيا) إلى واقع، وفكرة التغيير إلى برنامج»…ويعنى ما سبق أن اصرار الشباب على الثورة والتغيير سيظل يحلمون به مهما طال الزمن طالما لم يتحول الحلم إلى حقيقة وخاصة إذا ما كان المجتمع أكثر من نصفه شباب… إن الحلم / التمرد بات هدفا وممارسة فى آن واحد… تتجدد وتتبدل ملامحه وتجلياته لكنه يظل حاضرا…

لم يكن الجديد هو التمرد الشبابى فالتمرد سمة الشباب وإنما الجديد هو أن هناك حلما يريدون أن يحققوه ويجعلوه حقيقة…وما الاصرار على التعبير عن هذا التمرد بشكل علنى ومنظم إلا إصرار على تحقيق الحلم…والضغط على المجتمع بأنه لن يفيد الردع فى هذه المرة بل هناك حاجة إلى تضامن من الطبقات الأخرى، كذلك على المجتمع قبول التنوع الشبابى، وأن الأسرار التى يحملها جيل الكبار ولا يقوم بنقلها إلى جيل الشباب إلا بقدر ما يظهرون من ولاء لهم أصبحت متاحة لهم كشباب بحكم التقدم العلمى والتكنولوجى…وعليه فلم يعد سر الاختراع ملكا لأحد.. لم يقف الاحتجاج عند هذا الحد بل امتد ليشمل الاعتراض على مواقف السياسيين الذين يبررون سياسات غير عادلة وغير انسانية.. وعلى النظام التعليمى… وعلى رموز ومضمون كل من الإعلام والثقافة…حتى الحركات ذات الطابع الدينى لم تنج من احتجاج الشباب…الخ…

وفى كتب: «سنوات الحلم» و«سنوات البارود» و«شباب 68»، إشارة إلى أنه لا مفر من تجديد المؤسسات وإشراك الشباب وقبول التنوع والحرية والنقد الذاتى…و الأهم بحسب أحد مؤرخى هذه الحركة هو كيف يتنبه المجتمع إلى ضرورة مواجهة التناقض بين «وجود أفراد مضطربين بفعل قوانين السوق وخاضعين للمتطلبات الاقتصادية وبين مواطنين مستقلين ومشاركين هم فى الأغلب من الشباب بغض النظر عن المكانة والثروة واللون والجنس والعقيدة والانتماء الجيلى وقادرين على الإمساك بمصيرهم بغير استبعاد « بسبب إتاحة الفرص المتساوية بين الجميع… هذه هى النتائج التى نتجت عن ثورة الشباب فى 1968… وأتصور أن فهما من هذا النوع نحتاج إليه فى واقعنا…المجد للشباب.


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern