النظرة إلى المشهد السياسى الراهن تعكس وضعا «مأزوما» بامتياز. فهناك أطراف كانت تظن أن السير فى اتجاه تشكيل المؤسسات: التشريعية، والقضائية، والتنفيذية، سوف يسرع من تحقيق الاستقرار ومن ثم تنشيط الاستثمار. وفى المقابل كانت هناك أطراف ترى أن الحراك الثورى الذى انطلق فى 25 يناير لابد من ان يستكمل حراكه لضمان تحقيق مطالبه. مساران لم يتم التوافق بينهما. فكان التعجيل بالانتخابات البرلمانية التى أتت بأغلبية سياسية / دينية شكلت سلطة لم تطرح رؤية مختلفة عن السلطة القديمة اقتصاديًا وسياسيًا، وفى نفس الوقت حاولت أن تقيم مؤسساتها الموازية فى مواجهة مؤسسات الدولة الحديثة التى تتجاوز أى نظام سياسى. وعلى الطرف الآخر وجدنا مقاومة قاعدية للسلطة الجديدة التى لم تأت بجديد…وهنا تحديدا حدث «التأزم»…
•••
السلطة المغلقة فى مواجهة
المجتمع الديمقراطى
ربما يكون من المفيد فى محاولة تفسير ما يحدث قراءة الخبرات المقارنة فى هذا المقام. وخاصة أن هناك موجة من الدراسات ظهرت فى نهاية الستينيات عقب موجة الحقوق المدنية والسياسية التى ظهرت فى أمريكا، كذلك عقب ثورة الطلبة فى فرنسا 1968، حاولت أن تفهم وتدرس التطور الديمقراطى وفق المستجدات التى شهدتها المجتمعات البشرية. وهناك أيضا دراسات الدول التى تحولت ديمقراطيا منذ منتصف التسعينيات وقطعت شوطا معتبرا فى هذا المقام.
ومن الأفكار التى أجدها تقترب من تفسير تحولنا «المأزوم»؛ هو ما طرحه أحد الباحثين حول التمييز بين «فردية السلطة» و«اجتماعية السلطة». الأولى تعبر عن مصالح الحاكم الفرد، والأخرى تراعى أن السلطة لم تعد مشخصنة وإنما مجردة. وفى سياقنا يمكن القول أن السلطة باتت «مغلقة / ضيقة» لأنها لا تعبر إلا عن جماعة ذات عضوية مشروطة. لا تدرك تعددية الجسم الاجتماعى بحقوقه ومتطلباته المتنوعة. ولم تدرك السلطة الجديدة أن طبيعة التحول الديمقراطى تعنى الاجتهاد فى الانتقال من الحالة الاستبدادية إلى سلطة ديمقراطية حقيقية. وإذ بنا نجد أنفسنا نتحول من سلطة استبدادية إلى أخرى.
إن طبيعة مرحلة الانتقال تتسم بالتطلع إلى رؤية مطالب الحراك الثورى متجسدة عمليًا. وهذا يتطلب إدراك أن بنية المجتمع تكون فى حالة حيوية منفتحة على التغيير استعدادًا للمجتمع الديمقراطى المنشود. وعليه عندما لا تستجيب السلطة الضيقة للمجتمع المفتوح على الديمقراطية يحدث «التأزم».
بلغة أخرى صارت السلطة فى اتجاه معاكس للمجتمع.. صارت السلطة نحو إعلان دستورى استبدادى بدلًا من تعميق تطلعات المجتمع للديمقراطية بحسب 25 يناير…
•••
شرعية الإكراه
فبدلًا من السير فى اتجاه مشروع يعمق «دمقرطة» كل من مؤسسات الدولة والمجتمع. وجدنا إعلانا دستوريا يخل بالتوازن بين السلطات، ويواجه مؤسسات الدولة الحديثة، ويحصن قوانين سابقة ولاحقة، ويحصن مؤسسات ويمرر دستورا لا يعبر عن الغلبة.. وهى كلها ممارسات لم أجد إلا تعبير «شرعية الإكراه» لوصفها. ويبدو لى أن السلطة السياسية التى يكون ولاؤها لجماعة وخطابها يتمحور حول الأهل والعشيرة وخبرتها تقوم على الصرامة التنظيمية الداخلية تحت غطاء دينى بالإضافة إلى رؤية اقتصادية ريعية تجارية تزيد الفجوة الطبقية وموقف غير حداثى من قضايا كنا نتصور أن فقهنا قد تجاوز الحديث فيها مثل الموقف من المرأة وغير المسلمين، والإبداع..أقول يبدو لى أنها لا يكون أمامها إلا أن تستدعى «السلطة المطلقة».
ونصبح امام حالة تقترب من حالة تاريخية تعود بنا إلى الدولة العباسية، مثلًا، حيث السلطان سلطته مطلقة وحيث الدولة لا تعرف الفصل بين السلطات، فبالرغم من وجود قاضى القضاة، والوزير الأول..الخ، إلا أن فكرة الفصل بين السلطات لم تكن موجودة.. وهو ما كان يعبر عنه المــاوردى فى الاحكـــام السلطانية «بأنه لا خيـــار للسلطة المطقة، إذ دونها لا يوجد سوى الفوضى واللا سلطة».
وهو نفس المنطق الذى أدى إلى إصدار الإعلان الدستورى الاستبدادى. بالطبع قد يرد البعض بأنه الغى، بيد أن مضمونه قد طبق بالكامل. ونشير هنا إلى أنه من خلال متابعتنا لكثير من الموالين للسلطة نجدهم وللأمانة قد باتوا يسقطون الحديث عن الإعلان الدستورى فى أى حوار أو كتابات ويعمدون على القفز عليه.
الخلاصة، مثل الإعلان الدستورى الاستبدادى انحرافه فى مسيرة التحول الديمقراطى الذى كان فى الأصل متعثرًا ومليئا بالأخطاء ولكنها أخطاء كان يمكن تصحيحها.. إلا أن هذه الانحرافة كانت خطيئة بكل المعايير.
وللإنصاف، فإن هناك من النخبة السياسية من ساير السلطة الضيقة فى قبولها التغاضى عن الحالة اللاشرعية التى خلقها الإعلان الدستورى وبسببها سارت البلاد فى مسار لا شرعى. ويبدو لى أن هناك أرستقراطية سياسية (بلغة توكفيل) لم تعد تدرك بأن هناك واقعا سياســـيا متجددا ويختلف كليــــة عما خبروه واختبــروه من قبل فى أزمنة سابقة.
لذا لم اكن مخطئًا عندما قلت مبكرا أن الشارع/والشباب (أو ما اطلقت عليه الكتلة الجديدة الحية) أو «المجتمع الديمقراطى» ببنيته الاجتماعية الواسعة (إذا ما استخدمنا تعبير توكفيل مرة أخرى) قد تجاوز السلطة السياسية الضيقة وجانب من نخبتها السياسية المعارضة…فوجدنا الآتى…
•••
الكتلة الجديدة: تاريخ جديد ووعى جديد للسلطة
كيف أن الجسم الاجتماعى المصرى لم يزل حيًا، ومقاومًا. كل مكون من هذا الجسم الاجتماعى بات يعبر عن نفسه بالطريقة التى يراها صحيحة. لم تقرأ السلطة الجديدة (القديمة) الرسائل التى بعث بها المصريون. ولم تدرك النخبة السياسية أنه لن يصح إلا الصحيح. ولم تفهم بعض الشرائح الاجتماعية أن زمن السياسة «الهوم دليفرى» قد تم تجاوزه وأن السياسة ليست معركة الجولة الواحدة.
وها هى الكتلة الحية الجديدة الطالعة تناضل وتتعرض لأشكال وألوان من التنكيل والأذى لن يسقط بالتقادم.
فالكتلة الجديدة الحية لم تعد تقبل الجمود. ولم تعد تقبل التوقيع على بياض لأحد..
ولعل من أهم التحولات الكبرى التى لابد من إدراكها أن الحراك الثورى الذى أدى إلى إسقاط الحاكم قد سجل تاريخا جديدًا ووعيًا جديدًا ورؤيةً جديدةً للمستقبل خلاصته أن :
السلطة هى تعبير انسانى، ونتيجة عمل إنسانى وفهم إنسانى، بحسب بارينجتون مور ( وقد درّس مسارات الديمقراطية فى العديد من بلدان العالم مختلفة الثقافات)، فالسلطة تتشكل نتيجة لحركة المواطنين، كل المواطنين على اختلافهم، وتعبيرا عنها وليست منحة إلهية مقدسة منزهة لصالح فئة أو جماعة أو قبيلة، وعلى الأخص فى المرحلة الانتقالية.
إن الخروج من الحالة المأزومة هذه لن يحدث إلا إذا تجاوزنا مبادرات الالتفاف على الواقع، وسعينا إلى الائتلاف، دون إقصاء.. وسمينا الأمور بمسمياتها.
هناك مسار لا شرعى لابد من التراجع عنه، وضرورة تشكيل إدارة سياسية للبلاد تعبر عن الشراكة الوطنية وعن المجتمع الديمقراطى الحى لمرحلة انتقالية.