رؤيتان تتحكمان فى المشهد السياسى المصرى الراهن. نلخص كل رؤية فى كلمة واحدة كما يلى: الأولى يمكن أن نطلق عليها رؤية «الميدان» والثانية رؤية «الديوان». وتتصارع الرؤيتان فيما بينهما حول مستقبل مصر وطبيعة التقدم الذى ينبغى تبنيه. ماذا نقصد؟ وكيف يتم هذا؟
•••
صراع بين عالمين
بداية نقصد برؤية «الديوان»؛ رؤية من جاء إلى السلطة بقناعة أن الثورة انتهت وصار يدير الأمور بمنطق إدارى مكتبى حيث كل شىء قد عاد إلى أصله أو ينبغى أن يكون كذلك. أما رؤية «الميدان»؛ ترى أن الثورة لم تحقق مطالبها بعد ومن ثم وجب الاستمرار فى الاحتجاج والعصيان والثورة إلى أن تتحقق أهداف الثورة. أنه الصراع بين فكر وسكونية الدواوين وفكر وحركية الميادين. إنه صراع بين عالمين مختلفين تماما.
رؤية الديوان تنظر إلى الأمور بشكل تبسيطى وثنائى. فلقد أجريت انتخابات ـ بفرض نزاهتها التامة ـ ومن ثم لابد من القبول بشرعية السلطة الجديدة. وأى خروج على هذا التفكير إنما يعنى أن هناك ثورة مضادة، ولابد من القبض على مثيرى الشغب. وأنه ينبغى استكمال بناء مؤسسات الدولة بعد الثورة سعيا إلى الاستقرار من أجل قدوم الاستثمار. وأن السلطة التنفيذية تقوم بمهامها على أكمل وجه. فى المقابل نجد وقد تجمعت الأسباب المختلفة للغضب من قبل أنصار «الميادين» لتكون ما أسميه «الغضبة الكبرى» لأنهم يرون أن السلطة الجديدة، وهى جديدة بالفعل من حيث أنهم ليسوا الوجوه التى حكمت على مدى عقود، تتبنى نفس النهج الاقتصادى الذى سلكه من كانوا قبلهم وأدت إلى إفقار مصر وانتفاء العدالة بكل أبعادها ومستوياتها، واتبعوا نفس السياسات الأمنية القمعية المهينة لأبناء مصر، ولجأوا إلى تقييد الحريات بتبنى تشريعات مقيدة للحريات. إذن هو تراجع تام عن تحقيق مطالب الحراك الثورى الذى انطلق فى 25 يناير.
الأخطر أن من ينتمون لحركة الميادين قد وجدوا الرموز الاقتصادية للسلطة الجديدة وقد بدأت تتواصل مع الرموز الاقتصادية للسلطة القديمة (راجع الشروق تحت عنوان: القصة الكاملة لاجتماعات الإخوان برجال أعمال الحزب الوطنى المنحل…،الأربعاء 6/3/2013).
إذن، الرؤية المكتبية ترى أن كله تمام ويسير، وفق الثورة، بشكل طيب ـ لولا المؤامرات والثورة المضادة ـ ويستخدم نفس المفردات التاريخية التى استخدمتها الأنظمة التى سبقته، وكأنه يستحضرها من أرشيف الديوان…ورؤية الميدان التى ترى أن هناك الكثير الذى لم ينجز والأكثر إعادة انتاج القديم وضخ الدماء فيه…وبين الرؤيتين: «الديوانية» و «الميدانية»، تكمن الأزمة المصرية الراهنة…كيف؟
•••
تحولات كبرى .. استجابات كبرى
بالعودة إلى خبرات الآخرين وإلى الأدبيات المعتبرة التى رصدت وسجلت ونظرت نضالات الشعوب من أجل التقدم، نجد أن أحد أهم المعايير التى يقاس بها مدى كفاءة وفعالية التقدم هو حدوث «تحولات نوعية» فى مجالات المواطنة والديمقراطية والتنمية. وفى نفس الوقت تجاوزت دول الموجة الخامسة من التحول الديمقراطى بمعناه الشامل ـ بحسب أحد الباحثين ما يلى:
• النظرية الثورية الكلاسيكية
وهى النظرية التى كانت تسمح بانتهاك الحقوق بدعوى ضرورات الثورة. أو تدفع الحاكم بدعوى ضبط مقاليد الأمور والسيطرة على المؤسسات أن يلجأ إلى إعلانات دستورية استثنائية تصنع شرعية مناقضة للشرعية التى جاءت به. والمفارقة الكبرى هنا إننا سوف نجد السلطة الجديدة (الدينية الطابع) قد وقعت فى نفس الأخطاء الكبرى التى وقعت فيها كل السلطات الثورية التاريخية على اختلافها.
واقع الحال لم تستطع الذهنية «الديوانية/المكتبية» للسلطة الجديدة, ومعها ـ حتى لا نظلم السلطة الجديدة ـ ما يلي:
• الكثير من عناصر النخبة المصرية.
• كذلك المؤسسات القديمة التى لم تزل تحلم بعودة القديم.
• وأيضا الشرائح الاجتماعية التى كانت لها مصالح وثيقة مع القديم.
• بالإضافة إلى جزء من الطبقة الوسطى المترددة والتى تظن أن القديم كان أفضل مع غموض المستقبل وطول المرحلة الانتقالية التى ربما تؤدى بنا إلى ما لا يحمد عقباه.
أقول لم تستطع السلطة الجديدة ومعها ما سبق، الاستجابة لما أطلقت عليه «التحولات الكبرى» التى جرت فى مصر بفعل حراكات ثورية غير نمطية، أظنها مستمرة وممتدة بأشكال عدة مبتكرة (راجع الشروق 11/2 الماضى).
وهنا مربط الفرس.
•••
مأسسة إبداعات الميادين
إن الحراك الثورى الذى جرى فى مصر لم يكن حراكا نمطيا على شاكلة الثورة الفرنسية أو ما تلاها من ارتدادات ثم ثورات أخرى. إنه «حراك مركب»؛ تداخلت فيه عناصر عدة منها : الجيلى والطبقى والمكانى والجهوى والدينى والمذهبى والجنسى. حراك تم على مراحل واتخذ اشكالا مبدعة من الاحتجاج فى ظل لحظة معرفية وتقنية يسرت للطليعة الرقمية الشبابية أن تؤمن تغييرا غير مسبوق وفريد. حراك فى مواجهة عقود من الاستبداد السياسى والدينى والثقافى أوصل مصر إلى ما هى عليه.
وعليه فإن ذهنية الدواوين لن تنجح إلا إذا استجابت للتحولات الكبرى التى حدثت من: أولا: التحرك القاعدى للمواطنين، وثانيا: مواجهة النظام الأبوى، ثالثا: إسقاط القداسة والعصمة عن السلطة/الحاكم، رابعا: إسقاط الشمولية. وأى محاولة للارتداد عليها فسوف تواجه بذهنية وإبداع الميادين.
خاصة أن هذه التحولات تحدث فى ظل أجواء عالمية تشهد تضاعفا للمعرفة وتجددا للتكنولوجيا غير مسبوق. الأمر الذى يستدعى خروجا على مألوف الدواوين. إن الميدان هو نقيض الديوان. وواقع الأمر أن خروج المواطنين ـ على اختلافاتهم ـ إلى الميادين إنما يعنى أنهم ضاقوا بكل ما هو نمطى وتقليدى ومكتبى وظيفته «تستيف» الملفات…الخ، مع بقاء كل شىء على حاله. لابد إذن لمواطنى الميادين أن يجدوا السلطة الجديدة تعبر عنهم وعن مطالب الميادين برؤى ولغة مختلفة. المواطنون فى الميادين أبدعوا فلما لا تنتقل هذه الإبداعات إلى السلطة أو يتم مأسسة إبداعات الميادين.
ألا يستوقف أهل الدواوين هذه الإبداعات التى لا حصر لها التى تتم خارج المؤسسات الطبيعية أو القنوات التى من المفترض أن تخرج منها الإبداعات. لننظر إلى الفعاليات الشبابية فى شتى المجالات وكيف تبدع فى كل مساحة شاغرة تجدها حتى تصطدم بموظفى الدواوين يمنعونهم وفق اللوائح وهكذا ورثت السلطة الجديدة من السلطة القديمة أسوا ما كانت تحمى به نفسها من جهة وتمنع به حراك المواطنين من جهة أخرى. ونظرة سريعة على نوعية التشريعات التى تتحمس لإصدارها عناصر السلطة الجديدة من: منع تظاهر، لتقيد الجمعيات الأهلية،…الخ.
•••
الأكيد أن حركة المواطنين سوف تستقوى بالميادين وتستلهم روحيتها وتعود إليها عند اللزوم إذا ما ظن البعض أنه يمكن حصار التغيير أو كبحه أو حده طبقا لمصالح القلة. التغيير إن لم يكن كاملا مكملا ووفق أعلى المستويات التى عرفتها الإنسانية على اختلاف ثقافاتها فسوف تستمر الحيوية فى الميادين…وسيكون لسان حال المواطنين ما قاله الليندى:
« التاريخ لنا.. وهو من صنع الشعوب…لا الجريمة ولا القوة تستطيعان إيقاف سير التطورات الاجتماعية…».