مع وداع عام واستقبال آخر، ربما يكون من المفيد أن نمنح أنفسنا وقتا للتأمل فى ماذا جرى؟ وما الذى سوف يحدث؟ خاصة أن القادم أهم وأخطر، فمشهد النهاية لم يتشكل بعد.. ولكن التغيير الحقيقى قادم قادم.. وحتما «حورس آت آت».
وهنا يكون للتاريخ أهميته كذلك الابداع الأدبى الانسانى بالرغم من أى قيود ضد الحريات إشاراته وإضاءته التى تعصمنا من اليأس أو القلق.. بالإضافة إلى القراءة الصحيحة لرسائل الواقع. وأذكر أبيات لشاعرنا الكبير صلاح عبد الصبور نصها:
ألذ طعام للإنسان هو الأوراق
وأشهى ما فى الأوراق
هو التاريخ
نأكله كل زمان وزمان ثم نعيد كتابته
فى أوراق أخرى كى ناكلها فيما بعد..
•••
المواطنة من التبشير بها إلى ممارستها
بداية، نقول انه لو لم تكن هذه الأوراق التاريخية مغموسة بكل أشكال النضال السياسى والمدنى السلمية والعُنفية، ما كانت تحفظ وتستعاد. ولأن هذه الأوراق تعبر فى الأصل عن حياة حقيقية من دم ولحم ما كنا نعنى بها. قولا واحدا، استطاعت 25 يناير «بدماء شبابها» أن تؤسس لتاريخ جديد «للمواطنة» فى مصر الحديثة. كيف؟
لقد كنا ولعقود نتحدث ونبشر عن المواطنة، وخاصة أننا نتبنى معنى للمواطنة يتجاوز التعريفات اللغوية أو الأخلاقية / المعنوية. المواطنة لدينا هى «حركة» المواطنين فى الواقع من أجل اكتساب الحقوق بأبعادها: الاقتصادية والاجتماعية والسياسية / المدنية والثقافية. ولكن مع تحرك شبابنا فى 25 يناير إلى الميدان بإرادتهم الحرة طلبا للتغيير فلقد نقلوا المواطنة من كونها «مبدأ» إلى «فعل حى» على أرض الواقع. وهو ما مثل المرحلة السادسة من مراحل تطور المواطنة فى مصر منذ تكوين الدولة الحديثة إلى يومنا هذا. وهذا هو الجديد.
ففى دراستنا لتطور مسيرة المواطنة منذ محمد على، رصدنا خمس مراحل: الأولى «المواطنة من أعلى» (بزوغ المواطنة) التى قام بها محمد على. والثانية: المواطنة فى بعدها السياسى/ المدنى مع ثورة 1919 (بدء تبلور المواطنة بأبعادها). الثالثة: المواطنة فى بعدها الاجتماعى (المواطنة المبتسرة). الرابعة: المواطنة الغائبة مع دولة يوليو المضادة فى السبعينيات. والخامسة: المواطنة النخبوية مع السياسات النيوليبرالية مطلع الثمانينيات.
وتأتى 25 يناير بمطالبها الجامعة / المانعة، لتقول إنه لن يستقيم تقدم هذا البلد إلا إذا اجتمعت الحرية السياسية والمدنية مع العدالة الاجتماعية. وأن زمن المواطنة النخبوية قد فات فالمواطنة لابد أن تمتد لتشمل الجميع وأن التقدم يبدأ من أسفل. إنها بداية مرحلة جديدة من المواطنة «الفعل» بعيدا عن: «المساومات والصفقات والخيانات».
تحركت الطليعة الشبابية الرقمية ومن ورائها شباب أحزمة المدن، والطبقة الوسطى بشرائحها والأغلبية المنصرفة والتى لم تعد. ورفعت مطالبها الثورية «الناعمة» عن الحياة التى تريدها.
وجرى ما جرى من تغييرات على مدى عامين
ولاشك أن هناك الكثير والكثير تغير فى مصر ولكن هناك قدرا من القلق يسود.. لماذا؟
•••
الطوفان التام جاى جاى
ظنى أن الحراك الذى انطلق فى 25 يناير 2011 كان حراكا فى إطار ما هو قائم أو «جعل كذلك» اى أن تكون حدوده هى ما نحن فيه لذا تتم إعادة انتاج القديم. نعم نجح المواطنون بممارستهم المواطنة «كفعل ثورى» أن يسقطوا الحاكم وان يعبروا عن رؤيتهم لمصر الجديدة. ولكنهم تركوا نفس شبكات المصالح: الثروية والدينية، على حالها، دون مراجعة وتقويم. إنها الشبكات التى تم الاحتجاج عليها منذ 2005 (وأذكر فى هذا المقام بيان كفاية، وبيان أدباء وفنانون ومثقفون من أجل التغيير الذى وقعنا عليه فى يونيو 2005، ومؤتمر كفاية الأول الذى نظم تحت عنوان المواطنة وشاركنا فيه بحاضرة عنوانها «لا إصلاح بغير المواطنة» يناير 2006).
وكان سقف هذه الجهود إجراء إصلاحات تغييرية. ويبدو لى أن هذا هو ما عملت هذه الشبكات عليه لاحتواء زخم 25 يناير الثورى، بتوزيع مهام دقيقة: احتكار الثروة فى إطار قلة من جهة، وضمان عدم خروج الفقراء على هذا الوضع بسيطرة الجماعات البيوريتانية ذات التأويل الأحادى التبسيطى الرجعى المحافظ للدين على الفقراء بنشاطات ذات طابع خيرى. وهو نموذج رأيناه بامتياز فى امريكا اللاتينية من خلال تحالف «الكريول»: اصحاب الامتيازات المالية والدينية على حساب تقدم الشعوب. أو فى إيران من خلال تحالف الكومبرادورية الإيرانية والبازار. وفى الولايات المتحدة الأمريكية من خلال اليمين السياسى (النفطى) واليمين الدينى (حركة اليمين المسيحى الجديد) اللذين تحالفا معا خلال فترتى بوش الابن.
•••
والقراءة المتأنية لانتخابات 2011 (والتى تسابق الكثيرون لخوضها بشكل مواز للدم الذى سفك فى ماسبيرو ومحمد محمود ومجلس الوزراء…الخ). تقول إنها فى واقع الأمر كانت وربما يكون هذا هو الجديد بين أذرع سياسية لكيانات دينية وأذرع سياسية لمصالح ثروية فى غيبة حزب حاكم وبيروقراطية أمنية وهما من انجازات 25 يناير لا شك.. وهنا المأزق تحديدا.. كيف؟ العودة إلى حارة الفساد التى وصفها نجيب محفوظ وكتبنا عنها قبل 25 يناير.
هناك ثورة لم تستطع تغيير الأبنية القائمة.. وهناك قوى تحاول احتواء الثورة من استكمال فعلها التغييرى.. يتم هذا بممارسات سلطوية بشعة وبعقد صفقات وبفتاوى دينية، والأخطر أنه باسم الثورة والشباب والدم يتم اختطاف مصر الوطن التعددى العريق لصالح مشروع فئة / جماعة مغلقة فى ظل إعلانات وكيانات لا شرعية وترهيب غير مسبوق، ببركة وتمرير وتبرير وجوه لا ضمير لها.
لذا فإننا نثق أن المواطنة: الفعل، الذى انطلق لن يتراجع وأن الثورة حاضرة طالما أن القائم عاجز عن تجاوز مشكلات الواقع ( أكتب هذا الكلام وأنا أقرا كتب: فيشر عن تاريخ أوروبا من 1789 إلى 1950، والوفد وخصومه وخاصة فترة إقرار دستور 1930 الاستبدادى، وتاريخ الدولة فى الإسلام).
ونثق مع مطلع العام الجديد أن دماء شبابنا لن تذهب سدى.. شريطة عدم إضفاء شرعية على ما لا شرعية له والتنبه للخائنين لأحلام شعبنا وللذين يحاولون تغيير طبيعة الدولة المستقرة لأخرى لا يعرفها المصريون.. إنها لحظة حق وحقيقة.. مصر الوطن مهدد بالاختطاف بعد توقيع هدنة هى جزء من مشروع خبيث ولن يفيد إعادة انتاج القديم.
«لذا فالثورة القادمة سوف تنتقل من التغيير فى إطار ما هو قائم إلى تغيير ما هو قائم»…
وأُذكر بتصرف بما قاله عمنا سيد حجاب فى قصيدته البديعة الرؤيوية النافذة: «قبل الطوفان اللى جاى»…
جاى الطوفان (جبار).. يمحى مين ساد بالفساد فى البلاد
ويحمى أحلام العشمانين ويحيى فى قلوبنا الحنين والعناد.
ح يقول ويعمل حاجة فوق القول… جاى ينصف المعقول من المنقول… وينصر المظلوم على المسئول
بالوصل بين العلة والمعلول
بصفاء سما مولاى جلال الدين وسورة ياسين… وبعزم جيفارا ويسوع والشهداء والقديسين… وبزهد غاندى وعقل طه حسين… لا أبالسة متغطرسين ولا إمعة موالسين ولا مدلسين
جاى أمواج ورا أمواج
شبان صبايا خضر متحمسين… شايلين رايات المجد للإنسان خليفة الرحمن
قلوب لا يغويها دهب وهاج… ولا تنتفض م الخوف من الكرباج
ونقول نوينا نقيم صلاة الطوفان… وجرس قيامة الانسانية أهو دق
نلقى الشعوب بتنول وتأخد حقها المستحق.