الشراكة الوطنية كانت إحدى سمات العلاقة بين القوى السياسية والشرائح العمرية والاجتماعية التى أوجدتها 25 يناير بين المصريين من أجل إحداث التحول السياسى الذى يليق بهم. وكان جل هذا التحول عنوانه تحقيق العدالة الاجتماعية والحرية السياسية والمدنية والثقافية على قاعدة الكرامة الانسانية. نجحت هذه الشراكة فى إحداث حراك فى البيئة السياسية المصرية تجلى فى إسقاط الحاكم.
وكان من المفترض أن تستفيد هذه الشراكة من التوافق الوطنى الذى مورس على أرض الواقع من خلال اصطفاف وطنى غير مسبوق فى استخلاص المبادئ التى سوف تحدد مسار حركة الوطن المصرى بكل مواطنيه فى ضوء نتائج الحراك الشبابى الشعبى الثورى.
إلا ان الواقع نظرا لكثير من الملابسات التى عرضنا لها فى كثير من الكتابات قد انحرفت بالحراك الوطنى إلى عراك ديني/ ثقافى بامتياز. فانحل الاصطفاف الوطنى وحل التقاتل المذهبى السياسى الدينى. وهو ما لاحظناه فى معرض تقييمنا لذكرى 25 يناير الأولى حيث اشرنا كيف صار الحوار بين القوى الوطنية من التوافق الوطنى إلى التراشق المجتمعى (راجع دراستنا «بين ينايرين» فبراير 2012)،وحذرنا من كتابة نص دستورى فى هذا السياق…لماذا؟
●●●
بداية نشير إلى أن الكلمة المفتاحية للكتابة الدستورية من واقع خبرات العالم هى «التوافق». لا يمكن قبول أى نص دستورى إلا بتحقيق «التوافق» بين كل ألوان الطيف الوطنية. ولا يدخل فى الأمر الوزن النسبى لأى قوة سياسية.فالكتابة الدستورية لا تكتب بمنطق «الغلبة» أو بهيمنة تيار على آخر (كما اوضحنا فى مقالنا الأخير «الدستور مصر فى مازق جريدة الشروق 22/10/2012). أو بمنطق الانتصار البرلمانى، فيصبح المعيار الذى تنطلق منه الكتابة الدستورية: المنتصرون فى مواجهة الخاسرين winners vs. losers. وقد راجعت خلال الفترة الماضية العديد من المصادر المعتبرة (منها على سبيل المثال Re- Constituting the Constitution، وأخرى) فوجدت أن إصدار دستور فى أى بقعة فى العالم: الهند، ماليزيا، جنوب إفريقيا، البرازيل، نيوزيلاند…، لا يتم إلا «بالتوافق». وأن الوصف الذى توصف به عملية كتابة الدساتير هو أنه «عملية بناء» Building من أجل المزيد من «دسترة» الدستور. أى المزيد من الإحكام والارتقاء على قاعدة التوافق.
لذا يعتبر كثير من الدارسين أن عملية الكتابة الدستورية هى فرصة لتجدد ليس فقط مدرسة الكتابة الدستورية وإنما مدارس الاقتصاد والفلسفة واللاهوت/الفقه وعلم الاجتماع والعلوم السياسية وفلسفة العلوم،…الخ.
وبالطبع هذا عكس ما هو سائد من اعتقاد البعض أن الكتابة الدستورية تعطى لأحد القانونيين لينكب وحده على كتابة الدستور خلال أيام. كما لو أنها مقاولة تسليم مفتاح تعطى لأحد الصنيعية. وهو ما سمعته من أحد القانونيين وقد دلل على ذلك ببعض الدول النفطية المستقلة حديثا بأنها كلفت أحد فقهاء الدستور المصريين بعمل ذلك. وهى مقارنة تنم عن عقل بيروقراطى/ تكنوقراطى بامتياز، ليس لديه ما اصفه «بالحس الدستورى» الذى هو نتاج حركة وطنية نضالية. حركة وطنية أبدعت تراثا دستوريا معتبرا منذ شريف باشا فى الثلث الأخير من القرن التاسع عشر. تراث دستورى يقوم على أمرين هما الوطنية المصرية، والديمقراطية السياسية / الاجتماعية…من خلال التأكيد على ما يلى:
● التخلص من النفوذ الأجنبى، وتنظيم مالية البلاد لتسديد الديون التى تكبل الاقتصاد المصرى، وهذا هو البعد الوطنى.
●تحطيم الحكم المطلق لصالح حكم نيابى صحيح، والمساواة الاجتماعية بين المصريين؛ وهذه هى الديمقراطية ببعديها السياسى/المدنى والاجتماعى.
وحولهما كان ينعقد «التوافق»؛ وهو ما عبر عنه إمامنا الوطنى الجليل ذروة فقه إسلام الخبرة المصرية محمد عبده حيث قال: «إن اهالى بلادنا المصرية دبت فيهم روح الاتحاد وأشرقت نفوسهم منه على مدارك الراى العام. فهم بهذا الاستعداد العظيم أهل لأن يسلكوا طريق الشورى وسن قانون ــ دستور ــ يراعى فيه ضبط المصالح على الوجه الملائم. يتبادلون فيه الأفكار الحرة، والآراء الصائبة «…(راجع الأعمال الكاملة).
وهنا نطرح السؤال إلى أين يأخذنا النقاش الحالى حول المسودة الدستورية المطروحة…
●●●
بداية يبدو لى أن «قطفة» النقاش الأولى تعكس استقطابا حادا ينحرف بنا من حالة «التوافق القائم على الشراكة» إلى «التراشق الذى يصف المختلفون بالشرك». ولعل هذا هو أخطر ما فى المسألة هو تقسيم الوطن إلى فريقين. وهو أمر يعيد إلى الأذهان ما طرحه برنارد لويس فى كلمة افتتاحية بمؤتمر بهرتزليا عقد فى مطلع 2007 حيث بدأ يروج لفكرة: انتهاء الدولة الوطنية النابليونية وبدء زمن الدولة المذهبية». وهى أطروحة حذرنا منها فى وقتها. ويبدو لى أنه بدلا من أن يدعم 25 يناير تجديد الدولة الوطنية بمؤسساتها بتنا نفرط فى دولتنا الحديثة لصالح المذهبية والتى من إحدى تجلياتها العودة إلى الجماعات الأولية. وإذا كان هذا مقبولا بدرجة نسبية عندما انحازت دولة يوليو المضادة إلى السياسات النيوليبرالية الجديدة أو إلى اقتصاد السوق فانسحبت من تقديم الخدمات إلى مواطنيها وخاصة فى مجالى التعليم والصحة ومن ثم عاد المواطنون إلى جماعاتهم الأولية. فإن هذا لا يمكن قبوله بأى حال من الأحوال فى مرحلة ما بعد 25 يناير حيث سفكت دماء الشباب من أجل مصر جديدة. وإلا وحسب مقالنا السابق فى الشروق فإننا سنعيد انتاج القديم فى الدستور الجديد. قديم يعكس تحالفا بين اليمين ببعديه السياسى والدينى. وكأنه تعبير عن توازن القوى الذى كان آخذا فى التبلور واقعيا منذ بدء دولة يوليو المضادة مع السادات (راجع سلسلة مقالاتنا عن ستينية ثورة يوليو جريدة الشروق)، أى دستور بأثر رجعى، ولكنه لا يعبر عن روحية 25 يناير بأى حال من الأحوال.
إن التركيز على القضايا المتعلقة بالهوية / المرجعية الدينية دون غيرها بهذا الشكل هو أمر لا نجده فى أى خبرة لا فى تراثنا الدستورى ولا فى الخبرة المقارنة. نعم يتم الإشارة إليه. بيد أن النص فى واقع الأمر لا يضيف إلى الواقع شيئا. لذا فإن الجدل الدستورى الحقيقى يكون فى كل ما هو يتعلق بما تحقق فى الواقع من خلال لحظة التغيير والرؤية التى سوف تحكم مستقبل الجماعة الوطنية بمكوناتها أو كيفية «ضبط المصالح» بالنسبة للعباد بحسب إمامنا محمد عبده.
إننى أتفهم الرؤية التى يتبناها السلفيون أو البيوريتانيون الجدد بحسب ما وصفناهم هنا فى الشروق فى 2011 والتى تتسم «بالنقاء» الدينى. ولكنى أظن أن هذا التصور النقى للعالم والحياة ينبغى أن يتصل مع تراثنا التاريخى والفقهى والحياتى والدستورى المصرى، الذى أظنه لا يتعارض مع الشريعة الإسلامية. وإن إعادة تفسيرها كما جرى فى المادة 221 فى المسودة الحالية إنما تعنى أن هناك تناقضا مع البناء القانونى المصرى الحالى أو على الأقل سوف تفتح الباب للتشكيك فى مشروعيته.
وعليه فإن هذا التركيز قد جار على القضايا الحقيقية من عينة النموذج التنموى لمصر، الموجات الحقوقية الجدية، فلسفة عمل وحركية المجتمع المدنى بعد نجاح المواطنين فى إسقاط الحاكم، أو التراجع عن مواد كانت تكتب فى تراثنا الدستورى السابق دون شروط وتدرجنا فى كتابتها من الأدنى إلى الأرقى وهو أحد المعايير التى يتم تقييم الدساتير بها. فمثلا بعد أن كانت تضمن الدولة حرية العقيدة (مادة 46/1971) باتت حرية الاعتقاد مصونة ( 37 / المسودة الحالية) ثم الإحالة إلى القانون فى هذا الأمر…
عن هذا الأمر والكثير من التفاصيل نستكمل حديثنا حول الدستور بشكل موضوعى.