حصاد كونجى

أكتب هذه السطور فى منتصف اليوم الأول من يومى جولة الإعادة للانتخابات الرئاسية المصرية. وهى الانتخابات التى أظنها تعكس طبيعة الصراع السياسى فى مصر على مدى الستين عاما الماضية من جهة، والتفاعلات السياسية الجديدة التى انطلقت مع الحراك الشبابى الشعبى الثورى منذ 25 يناير 2011 وإلى الآن، من جهة أخرى. نحن فى واقع الأمر أمام مستويين سياسيين تداخلا معا وشكلا هذا المشهد السياسى المرتبك / المركب: أحدهما تاريخى يعود إلى تأسيس دولة يوليو، والآخر من نتاج الزخم الثورى الذى انطلق منذ عام ونصف. إنها حركية سياسية مركبة من حيث أطرافها الفاعلة، والمرجعيات/ الشرعيات التى تعبر عنها. وأظن أنه من الأهمية بمكان الاقتراب من هذا المشهد وتقدير الحصاد الأولى لهذه الحركية المركبة.

الكتلة الجديدة بين الجماعة والشبكة

يمكن القول إن نتيجة الجولة الأولى من انتخابات الرئاسة قد لخصت مكونات الحركية السياسية المركبة والمرتبكة فى آن واحد، وطبيعة العلاقة بين هذه المكونات عمليا. فلقد أسفرت النتيجة عن ثلاث قوى كما يلى: الأولى الجماعة، والثانية شبكة المصالح، والثالثة الكتلة الجديدة. وتعبر هذه النتيجة عن دلالتين أساسيتين هما ما يلى:

الدلالة الأولى: أن جانبا من التنافس كان امتدادا للصراع التاريخى بين الإخوان وبين شبكة المصالح التى هى تعبير عن رموز دولة يوليو المختلفة عبر العقود. وهو ما تأكد من خلال السجالات التى جرت بين المتنافسين و التى تصاعد إيقاعها مع اقتراب جولة الإعادة.

الدلالة الثانية: هو أن هناك كتلة جديدة تعبر عن ناصرية جديدة وإسلام سياسى جديد، وعن ليبرالية جديدة، ويسار جديد يحاول أن يميز نفسه عن المتنافسين الأساسيين من جهة، وعن تجاوزهما لهذا الصراع التاريخى من جهة أخرى.إنها الكتلة الجديدة التى ولدت من رحم الزخم الثورى الذى جرى وتريد أن ترى مصر جديدة.

وقد حمل ما سبق فى الواقع الكثير من الحقائق التى لا يمكن تغافلها. لعل أولها: هو أن هناك كتلة جديدة بازغة/ صاعدة لا ترى فى كل من الجماعة والشبكة القدرة عن أن يعبر أى منهما عنها. وثانيها: هو أن بزوغ هذه الكتلة الجديدة يعنى أن شرعية الثورة أو الشرعية الجديدة الآخذة فى التبلور تريد أن تعبر عن نفسها بعيدا عن ممثل الشبكة أو ممثل الجماعة. وثالث هذه الحقائق: أن هذا التمييز من قبل الكتلة الجديدة يعنى أن هناك مستويين سياسيين يتصارعان معا. أحدهما بين الجماعة والشبكة.والثانى بين الكتلة الجديدة وبين الجماعة والشبكة معا.

وتجلى الموقف أكثر فأكثر مع الاقتراب من جولة الإعادة.فلم تنجح محاولة الجماعة فى أن تقدم نفسها بالكامل كممثل للقوة الثورية أو الكتلة الجديدة كما لم تفلح ــ بالطبع ــ محاولات حملة شبكة المصالح من نيل رضا الكتلة الجديد والتحريريين بالتمام. وأكد السجال الذى جرى بين المتنافسين إلى استعادة التنافس التاريخى بينهما والذى ينتمى إلى شرعية واحدة تاريخية هى شرعية دولة يوليو بأشكالها المتعاقبة: الصراعية فى ظل الحقبة الناصرية، والتنافسية فى ظل الحقبة الساداتية، والتنافسية المقيدة فى الثلاثين عاما الماضية (راجع مقالنا: دولة يوليو وثورة 25 يناير فى الشروق).

ولعل الدعوة إلى إبطال الصوت كانت تحمل دلالة رمزية إلى أن هناك شرعية جديدة رافضة لشرعية المتنافسين معا باعتبارها ترجع إلى الماضى أكثر مما تعبر عن مصر الجديدة التى تحلم بها هذه الكتلة الجديدة. وأن أى رئيس قادم لمصر سوف يظل ناقص الشرعية طالما أن هناك كتلة جديدة لم ترض عنه بعد. وأن إهمال هذه الكتلة انطلاقا من أن الصندوق قد جاء به وأن هذا يكفل له الشرعية هو كلام يظل محل جدل لأن الرئيس المنتخب فى هذه الحالة هو إما يعبر عن الجماعة أو الشبكة. لذا لابد لأى منهما أن يحظى بأصوات تتجاوز كتلته.

إشكاليات المرحلة الانتقالية

بالطبع تزامن مع انتخابات الرئاسة الكثير من الأحداث التى ألقت بظلالها على المشهد السياسى. منها تأسيس الجمعية التأسيسية الثانية لوضع الدستور، وما شابها من تكرار لأخطاء الجمعية الأولى، بالإضافة إلى حكمى المحكمة الدستورية العليا حول دستورية قانون العزل السياسى ودستورية انتخابات مجلس الشعب ومن ثم شرعيته. وهى أمور لا يمكن التغاضى عنها. بيد أن الرؤية العامة لهذه الأمور بعيد عن الأمور التقنية الدقيقة تشير إلى الأخطاء التى شابت المرحلة الانتقالية والتى أشرنا إليها مبكرا ونوجزها فى الآتى:

ــ أننا حاولنا أن نجمع بين شرعية الميدان والبرلمان والعنفوان. فهناك من رأى 25 يناير لحظة استثنائية يمكن أن نعود فيها إلى ما قبلها مع بعض التعديلات. وهناك من رأى ضرورة التغيير الجذرى، وهناك من استخدم القوة فى إعاقة ذلك.

ــ وهو ما سبب التراوح فى المواقف بين تلبية احتياجات التغيير و الانقطاع عن ما سبق أو وصل ما انقطع.

ــ وانشغل التيار الدينى بمشروعه وظن أن الغلبة دانت له ولم يدرك أن هذا يعنى الانفصال عن قوى التغيير التى تحركت ولديها رؤية أكثر تعقيدا لمصر الجديدة وأن هذا يلزم أن يجتهد الدين فيها ولا يختزل الأمر فى منظومة الأخلاق. وأن ينخرط التيار الدينى أكثر فأكثر فى التيار الرئيسى الساعى للتغيير بدلا من أن يتصور فى نفسه أنه الأفضل.

ــ فما دفع بالناس إلى التحرك فى 25 يناير أعقد بكثير من حصره فى تخفيض سن زواج الإناث، ومواجهة الختان، والفضائيات الخارجة على الآداب. فهناك قضايا الفقر والتبعية وأنظمة التأمين الاجتماعى والصحى وكيفية تحقيق العدالة الاجتماعية، والتقدم بقوة نحو منظومة العلم والتكنولوجيا، ودعم الإبداع فى كل مستوياته وبأبعاده المختلفة، وتجديد الفكر الدينى، وتجنب الفرقة وتقسيم المصريين على أساس دينى، واستخدام الديمقراطية كوسيلة وتأثيمها فى نفس الوقت.. إلخ.

ــ تصور البعض أن العملية الثورية قد وصلت إلى نهايتها وقد حان قطف الثمار وتوزيع المغانم بينما اكتشفنا أن هناك قوى قديمة لم تزل فاعلة وقادرة على أن تجمل نفسها وتعود لإعاقة التغيير وأن ما أصطلح على تسميته بالدولة العميقة بكل ما تحمل من سمات تاريخية لابد من فهمها جيدا. وربما يكون مفيدا أن نشير إلى ثورات المصريين عبر التاريخ منذ الفراعنة حيث عرف المصريون أول ثورة على الإقطاع كيف يتم استيعاب الزخم الثورى وكيف أيضا يتم تفعيله من الدولة وفى مواجهتها.

ــ التعبئة الدينية/ الطائفية التى تمت منذ البداية والظن بأن هذا سوف يعجل للبعض بالنصر دون الباقين.

ويبقى السؤال هل ضاعت الفرصة فى التغيير..

التغيير آتٍ آتٍ

قد يبدو أن التغيير/الحلم هو الضحية. التغيير نحو تحقيق مطالب 25 يناير من حيث الحرية السياسية ـ العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية ـ والعيش، قد فات آوانه مع عودتنا إلى المربع رقم واحد من جهة، وإلى أن الحصاد النهائى وذروته الانتخابات الرئاسية قد أتى بتنافس من الماضى أكثر من أن ينطلق بنا بواسطة إلى المستقبل  القوى الجديدة. وخاصة إذا ما تكررت الأسباب التى أطلقت 25 يناير أو الموجة الأولى من الحراك الشبابى الشعبى وعليه نشهد الموجة الثانية إلى أن تكتمل الثورة .

إن هذه العلاقة المعقدة تذكرنى بمسرحية وول سوينكا (أديب نوبل النيجيرى) والتى ذكرتها أكثر من مرة «حصاد كونجى». حيث دفع دعاة التغيير ويمثلهم داودو ثمن الصراع التاريخى بين كونجى ممثل القوة والمصالح وبين أوبا الذى يمثل الجماعة الدينية المغلقة. إلا أنى أثق أن الكتلة الجديدة لن تقبل بذلك وسوف تتجاوز صراعات الماضى وحساباته وأعباءه وتحقيق مصر الجديدة. وسيكون لسان حالهم مع داودو: اللعنة على كل صانعى العذاب، وعلى كل صانعى القيود والسلاسل، وكل زارعى الرعب وعلى بناة السجون.. والذين يمارسون القهر والظلم.


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern