لا تقدم لأى بلد بغير إدراج «منظومة العلم والتكنولوجيا» فى أى تخطيط مستقبلى.
هذا هو الدرس المستفاد الأهم الذى تعكسه البلدان التى سبقتنا فى التقدم. ليس فقط بلدان الصف الأول وأقصد البلدان الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية، وإنما دول آسيا وأمريكا اللاتينية التى أدركت أن اللحاق بالعصر والتقدم لابد وأن يكون انطلاقا من الأخذ بالعلم والتكنولوجية فكرا وبحثا وتطبيقا أو ما يعرف «بمنظومة العلم والتكنولوجيا».. إنها المنظومة الغائبة عن تصوراتنا وبرامجنا السياسية المقترحة للمستقبل بما فيها البرامج الرئاسية التى كانت مطروحة ولم تزل، إلا فيما ندر.. كيف؟
علم وتكنولوجيا أكبر.. ناتج قومى أكثر
تشير كل تجارب التقدم الصاعدة فى العقدين الأخيرين إلى أن «منظومة العلم والتكنولوجيا» تعد «قاطرة التقدم» فى عالم اليوم. وفى هذا المقام يقول الدكتور محمود عبدالفضيل: «لقد اكتسبت الأنشطة عالية التقنية أهمية استراتيجية فى سياق عمليات النمو والتنمية فى الدول النامية، حيث تلعب عمليات التقدم الفنى والتراكم المعرفى دور المحفز لنمو الإنتاج والإنتاجية فى الأجل الطويل. وتؤيد تلك النتيجة مجموعة من الدراسات التطبيقية التى سعت لاختبار العلاقة بين نشاط البحوث والتطوير، من ناحية، ونمو الإنتاجية الكلية لعوامل الإنتاج فى الدول الصناعية المتقدمة، من ناحية أخرى. فلقد أشارت تلك الدراسات إلى أن الزيادات المتلاحقة التى تحققت فى الإنتاجية الكلية لعوامل الإنتاج أى تلك المكاسب التى انعكست فى شكل زيادات فى حجم الناتج القومى، ولا يمكن تفسيرها بدلالة مدخلات العمل ورأس المال المادى فقط، إنما يستلزم تفسيرها إرجاعها إلى التغيرات التى لحقت بالرصيد التراكمى لنشاط قطاع البحوث والتطوير. ويعد قطاع البحوث والتطوير القطاع الأساس لمنظومة العلم والتكنولوجيا.
سر الاختراع.. فين الدماغ؟
يعُنى قطاع «البحوث والتطوير R&D»: بالبحث العلمى وإمكانية تطويره بشكل دائم. ومن ثم إيجاد السبل لجعل نتاج العقول الوطنية من بحوث تعرف طريقها للتطبيق ذاتيا. وكيف يمكن جعل كل من النشاط البحثى دائم التطوير من جهة وتطبيقاته فى حالة تواصل. كذلك كيف يمكن أن يكون هناك تداخل بين المجالات المختلفة، بما يعرف ب«التداخل الشبكى». أى أن يكون هناك من يقوم بالبحث والاكتشاف فى غرف الاختراع والمعامل وأخذ النتائج ليتم تطبيقها من خلال الصناعات التطبيقية المتنوعة. ويتم هذا على مستويين، الأول القدرة على تطوير التقنيات المتاحة. والثانى إبداع تقنيات جديدة.
بلغة أخرى، لو أخذنا مجال صناعة الدواء مثلا، لا يكفى أن يظل الاقتصاد الوطنى يقوم بتعبئة الدواء أى باستيراد «البودرة وما تحتوى من مادة فعالة» التى يتم تعبئتها فى الكبسولة التى ربما تكون مستوردة أيضا وإنما بإجراء البحوث التى تمكن من انتاج البودرة بما تحتويه من مادة فعالة تحقق الشفاء. أى معرفة سر الاختراع وطنيا واستمرار البحوث لتطوير المادة الفعالة بما يحقق نتائج أفضل. كذلك اكتشاف أدوية أكثر لأمراض مهمة. وهكذا تكون العملية فى تواصل مستمر بين البحث الدائم والتطوير اللازم. وهو ما تفعله الهند بنجاح باهر، والذى كدنا فى مصر أن نحققه فى مرحلة من المراحل. ولكن كثير من شركات الأدوية القديمة أغلقت أقسام البحث والتطوير. وشركات الأدوية الاستثمارية التى قيل أنها سوف تُحدث المجال قامت دون هذه الأقسام. فباتت أقرب إلى شركات للتعبئة وفى أدوية أقل أهمية وظلت الأدوية المهمة تستورد من الخارج.
من جهة أخرى كيف يمكن أن يتداخل أكثر من مجال معا، مثل استخدام تقنيات الاتصال والمعلومات بوسائطها المتنوعة فى خدمة شبكة المرور والمواصلات كما هو الحال فى مدينة اسطنبول، حيث توجد سيطرة مركزية عبر الكاميرات الإلكترونية على حركة السير. أو توظيف الهندسة الوراثية فى دعم الثروة الحيوانية والزراعية مثلما حدث فى البرازيل. أى التداخل بين أكثر من مجال معرفى وتقنى لتحقيق حياة أفضل للمواطنين.
مما سبق نوجز أن القدرة أولا على تطوير المنتجات التى بين أيدينا، ثم ثانيا ابتكار الجديد سوف تنقلنا إلى مصاف الدول المتقدمة اقتصاديا، لأن التقدم العلمى والمعرفى والتكنولوجى يعنى مالا وفيرا. وهو ما يتطلب أن تكون لدينا الأدمغة القادرة على ذلك وطنيا من خلال مأسسة منظومة العلم والتكنولوجيا.. مهما تكلفنا من مال.
تجريم ازدراء العلم
الخلاصة الحديث عن الصناعة والزراعة فقط باعتبارهما ذراعى التقدم دون عالم التقنيات عالية التقدم بات حديث من زمن فات. وبالطبع الحديث عن السياحة فقط باعتبارها هى التقدم دون غيرها، كما كان يروج فى العقدين الماضيين هو مزحة. وعليه فإن البرامج الرئاسية المطروحة، وهى تعبر عن كيف تنظر نخبتنا إلى المستقبل إلا فيما ندر (برنامجا صباحى وخالد على) تتحدث عن الصناعة والزراعة بشكل نمطى وبمعزل عن التقنيات عالية التقدم، التى لا يمكن التغافل عنها عند الحديث عن أى تقدم اقتصادى إنتاجى مثل: الألياف الضوئية، وصناعة البرمجيات، والصناعات الفضائية، وصناعة الطاقة الجديدة، وصناعة الإلكتروضوئيات، والمعدات الطبية/ العلمية، وصناعة المواد الحديثة التخليقية، والتقانة الحيوية، وتقانة الأتمتة، وصناعة أشباه الموصلات.
لقد عشنا عقود فى ظل سياسات الليبرالية الجديدة نعطى أولوية للسمسرة والبيع والشراء العقارى وللأراضى والتمدد السياحى لأسماء بعينها أو ما سميناه: «القلة الثروية الاحتكارية»، ونوحى بأن هذا هو الأساس لأى تقدم. وأظن أن هناك من لم يزل مؤمنا بذلك. راجع حديث رئيس مجلس الشورى عن التزام مصر بالاقتصاد الحر، وهو ما يعتبر مطروحا بقوة فى البرامج الرئاسية الباقية فى التنافس. والسؤال ما الذى يعنيه الاقتصاد الحر تحديدا، ولماذا يبقينا هذا الاقتصاد فى مكان بعيد عن اقتصاد المعرفة وعن التقنيات الحديثة والأخذ بالبحث والتطوير أو لماذا تظل منظومة العلم والتكنولوجيا منظومة غائبة.
أظن أن انشغالنا الدائم بقضية ازدراء الدين قد أنسانا العلم وأهميته وضرورة طلبه ولو فى الصين. وعليه ليس صدفة أن تتراجع قيمة العلم لصالح الخرافة والثقافة الغريزية، وليس صدفة أنه ومنذ تطبيق سياسات النيوليبرالية الجديدة منذ 1979 من قبل دول المركز قد زادت من تبعيتنا بالرغم من الحديث المستمر عن الخصوصية.. وأنها أفرزت ثقافة دينية محافظة قاعدتها الاجتماعية «الغلابة» تحميهم وتؤمنهم أخلاقيا وخيريا فى مواجهة اقتصاد السوق الذى كان لصالح قلة. وأن ينمو كل منهما فى ظل اقتصاد ريعى.
نقطة الانطلاق إلى المستقبل هو إعادة الاعتبار إلى العلم وتجريم ازدرائه، لقد استطاعت كوستاريكا أن تنتقل تاريخيا من جمهورية موز إلى جمهورية رقمية، وكذلك تشيلى والهند والبرازيل، وماليزيا، وجنوب أفريقيا.. إلخ، عندما أخذوا بمنظومة العلم والتكنولوجيا.