الرئيس (البرنامج).. والرئيس (الأب)

هناك فرق كبير بين ما يمكن تسميته الرئيس «البرنامج»، والرئيس «الأب».. هما حالتان على النقيض تماما.. فكل حالة تنتمى إلى زمن مختلف وإلى عالم مغاير أو كما نقول فى حياتنا اليومية إلى «دنيا تانية». ويبدو لى أن هناك من لم يدرك الفرق بعد بين الحالتين. لماذا وكيف؟

الرئيس الأب أو «الكبير أوى»

ينتمى «الرئيس الأب» إلى زمن ما قبل الدولة الحديثة. حيث النظام الأبوى هو النظام الحاكم. وتعنى «الأبوية» فى هذا الإطار: العلاقة الاجتماعية «البدائية» التى تدير كيانات بشكل شخصى وسرى وعلى أساس الموالاة الشخصية. بلغة أخرى تعنى «الأبوية»، عمليا، إدارة كيان على أسس: الثقة الشخصية، والقرابة، والولاء الشخصى، والطاعة، والامتثال ــ للكبير أوى بالأساس ــ إذا ما استعرنا عمل المبدع (الجامد جدى) أحمد مكى. وهو المتبع فى القبيلة، والعشيرة، والطائفة، والعزوة، وكل أشكال الاجتماع التقليدية.

وعليه ليس غريبا اننا لم نزل نسمع أنصار «الرئيس الأب» يتحدثون عن:

ــ «المبايعة»،

ــ ورفض ما هو قانون،

ــ والميل إلى الأخذ بالتزكية،

ــ والتحرك فى تكتلات طائفية تحاول فرض الرغبة الخاصة على الجميع،

ــ وشخصنة كل الممارسات.

والسؤال الذى يطرح نفسه بقوة هل من الممكن أن تدار الدولة بمعناها الحديث المركب بهذه الطريقة؟

حكم الأب والامتلاك المطلق

المتابعة المتأنية لما حدث فى الفترة الأخيرة تشير إلى إننا مازلنا عندما نريد أن نعبر عن تأييدنا لمرشح من المرشحين فإننا نبايعه جماعيا بالرغم من أن الانتخاب فى فلسفته يقوم على الإرادة الحرة للناخب الفرد وفق برنامج مطروح.. فالمرشح الذى تتم مبايعته لا يعد مرشحا يعبر عن بنية مؤسسية انتخابية وعملية ديمقراطية مركبة أو ما يمكن تسميته «المرشح البرنامج» الذى يهدف لتحقيق الأفضل للمواطنين، وإنما هو ــ فى الواقع ــ «المرشح الأب أو الراعى» لأبناء ورعية بعينهم وهنا تكمن الإشكالية.

لذا ليس غريبا أن يعطى المرشح لنفسه الحق «كأب» أن يصيح فى مباييعه يعنفهم ويحتد عليهم ويأمر هذا أن يتوقف ويأمر ذاك ليهتف.. إلخ.

فى ضوء ما سبق، سيكون من «الشرعى» السؤال أى إدارة للدولة يمكن أن يقوم بها «الرئيس الأب».. فى هذا السياق تذكرت الحوار الذى دار بين هاملت ووزيره بولونيوس فى عمل شكسبير الخالد «هاملت»، وذلك حينما كانا ينظران إلى سحابة فى السماء كانت آخذة فى التشكل ،فدار بينهما حوار حول الشكل الذى تتخذه السحابة وذلك كما يلى:

قال هاملت فى البداية: أترى تلك السحابة التى أخذت شكل الجمل؟

فأجابه بولونيوس: نعم أراها، وأقسم بأنها حقا فى صورة الجمل؟

ثم عاد هاملت وقال له لكننى أظنها أقرب إلى فأر..

فقال بولونيوس: الحق أن لها ظهرا يجعلها كفأر.. فعلا.

ثم غير هاملت كلامه مرة أخرى بقوله: أو هى تشبه الحوت.

فأمّن بولونيوس على كلامه للمرة الثالثة بقوله: إنها أقرب ــ جدا ــ إلى صورة الحوت.

.. وهكذا أيد بولونيوس هاملت بحماس فى كل مرة غير فيها رأيه..

هذه هى طبيعة العلاقة التى ستسود بين الحاكم ومن حوله من الحاشية وبالتالى الرعية قطعا.

تعكس قصة هاملت كيف أن السلطة تهُيئ لصاحبها أنه يمتلك الحقيقة من جهة، وأنه يمكن أن يغير رأيه كيفما شاء وفى أى وقت وعلى الآخرين أن يقبلوا بما يقول من جهة أخرى, فالسحابة لدى الأمير مرة «جمل» ومرة «فأر» ومرة «حوت»، هكذا بحسب تقديره الشخصى وليس وفق معايير علمية.. إنه الامتلاك المطلق..

ولأن المعرفة تصدر عن السلطة أكثر مما تصدر عن العلم والاختبار والتراكم والاطلاع فإن على المحيطين قبول ما يقال.. إنه سلوك ينتمى ــ بامتياز ــ إلى الثقافة الأبوية التى تجعل من لديه سلطة أى سلطة هو من يملك المعرفة الصحيحة وليس المعرفة فى ذاتها بما تحمل من منطق وجدة وجدية إنها إشكالية السلطة أى سلطة: المال، الدين، السياسة، السن، القوة.. إلخ…

هذه هى تداعيات الثقافة الأبوية وحكم «الرئيس الأب»…

الدولة الحديثة

برنامج وخبراء ومواطنون لا أب وحاشية ورعية بعينها

إن أحد أسباب الحراك الشبابى الشعبى الثورى الذى انطلق فى 25 يناير 2011، هو الترهل المؤسسى.

(راجع مقالنا الجمهورية الجديدة: الأسس والمبادئ ــ فى جريدة «الشروق») الذى نخر الدولة المصرية التى عرفت الحداثة منذ مطلع القرن التاسع عشر. ومن ثم لا يمكن العودة إلى الوراء قط.

لا عودة ــ أظن ــ إلى الوراء. وعلى الأجيال الجديدة الدفاع عن الدولة الحديثة وأحد أهم المداخل المتابعة الدقيقة لكل من يترشح فى الرئاسة أو فى الانتخابات البرلمانية أو المحلية هل يتبنى فكرة المرشح «البرنامج» أم لم يزل يدور فى رحاب المرشح «الأب» حيث الأولى تعبير عن الحداثة والثانية تعبير عن ما قبلها.

الرئيس البرنامج يتيح للأفراد الاختيار الحر ليس على أساس الموالاة الشخصية أو القرابة بأنواعها أو الرابطة الأولية وإنما على أساس الكفاءة، والموضوعية، والولاء للفكرة والمشروع الفكرى، التى يمكن مراجعتها ونقدها.. الأبوية لا تصلح فى مجال يعتمد على علاقات مركبة وتحتاج إلى القدرة والكفاءة والاطلاع العلمى على الجديد فى كل مجال. ومن هنا يكون لكل صاحب خبرة مكان لأن الانتماء هنا يقوم على أساس المواطنية، التى فى جانب منها تضمن أن يكون الأفضل فى خبرته هو الحاضر وليس المفضل بالقرابة، ومن جانب آخر تشير إلى أن شبكة العلاقات المجتمعية باتت معقدة ومتداخلة بين المواطنين بغض النظر عن اختلافهم. وأخيرا لأن هذا العصر يحتاج إلى إدارة مؤسسية وعقلانية وعلمية.

الخلاصة ما بين البرامجية/المؤسسية وبين الأبوية هو الفرق بين الدولة الحديثة والدولة ما قبل الحديثة.. أيضا الفرق بين الكيان الذى يدور حول كاريزما/حاشية/رعية وبين

برنامج/وأهل الخبرة/ومواطنين من حقهم المحاسبة والمراجعة.. الخلاصة الفرق بين الرئيس البرنامج والرئيس الأب وكما يقولون فى الريف ــ بين دنيا آبا العمدة وبين دولة ذات مقومات حداثية.


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern