أمة بلا ذاكرة لا مستقبل لها.. وأمة لا تقدر بُناتها تؤسس للعدم.. فى هذا الأسبوع وافت المنية اثنان من بناة مصر الكبار هما: العالم العاشق الدكتور محمد القصاص، والحكيم المناضل محجوب عمر. ومن الأهمية بمكان أن نقدم رموزنا الذين قدموا شيئا متميزا لوطننا فى سياق إنعاش الذاكرة الوطنية المصرية كأحد سبل تجديد الرجاء الثورى فينا – مهما طالت فترة اللايقين بسبب شبكات المصالح والانتهازيين – وأن مصر الجديدة المتقدمة الحديثة المؤسسية المدنية قادمة.. قادمة بتمكين مواطنيها. ولظروف المساحة نلقى الضوء اليوم على عالمنا الكبير القصاص، ونكتب لاحقا عن محجوب عمر.
القصاص: أحد بناة مصر الكبار
الدكتور محمد القصاص (90 سنة)، هو واحد من بناة مصر الحديثة، فهو أحد العلماء المعدودين على مستوى العالم فى مجالات دراسة الصحراء والنباتات. وتخصص منذ وقت مبكر فى الصحارى المصرية ونهر النيل، ويمكن القول ـ وبغير مبالغة ـ أنه يعرف بدقة كل بقعة من بقاع مصر معرفة دقيقة.
كما أنه ينتمى لهذه الطغمة من رجال العلم الذين لم ينكفئوا على تخصصهم الضيق، بل عمل طول حياته على أن يُسخر العلم من أجل تطور المجتمع. عرفته فى السنوات الأخيرة عندما كان يحضر مع حامد عمار (أطال الله فى عمره) وكوكبة من رموز مصر فى صياغة مشروع لمصر المستقبل فى مواجهة نتائج سياسات تحالف الليبراليين الجدد المهيمن فى النظام السابق. كان قليل الكلام شيمة العلماء الكبار. وتصادف أنه كان ينشر مذكراته فى مجلة المصور آنذاك (2007) فعرفت أننا أمام أحد البناة الكبار لمصر ولكننا أهدرنا إنجازاته مثلما أهدرنا إنجازات كل مدارسنا القومية (فى علم الاجتماع، والتاريخ، والموسيقى، والطب، والهندسة… إلخ) التى تأسست فى ظل الدولة الحديثة فتوقفت وأوشكت على الإغلاق.
يبدأ الدكتور القصاص مذكراته برواية نصها: «فى عصر يومى الأخير فى كامبردج (30 يونيو 1950) ذهبت لأودع أستاذى وأسرته الكريمة… لما تهيأت للوداع قام الأستاذ وأوصلنى إلى باب الحديقة، وتوقف ليقول لى نصيحتين… الأولى افتح لنفسك فى البحوث العلمية مجالا غير المجالات التى يعمل فيها من سبقوك من الأساتذة «إنه الابتكار»، والثانية أنظر عبر الحدود لترى ماذا يصنعون (كان يقصد إسرائيل). ويقول الدكتور القصاص إنه لم يكن على دراية بهذا الباب، فلقد نشأت إسرائيل وهو بعيد عن مصر. بيد أنه بعد أقل من أربعة أعوام دعا الدكتور القصاص إلى المؤتمر الأول عن بيئة النبات فى المناطق الجافة الذى عقد فى فرنسا عام 1954، وقد أتاح له هذا المؤتمر أن يتعرف على أهمية المدرسة الفرنسية فى هذا المجال كذلك المدرسة الإسرائيلية التى وجدها:
وضعت كتابا عن الزراعة فى سيناء، من خلال زيارة قام بها عالم إسرائيلى إلى سيناء قبل 1948.
وضعت مرجعا عن تصنيف النباتات فى فلسطين وما حولها.
وكان السؤال الذى شغل الدكتور القصاص فى هذا المحفل العلمى، ما هى عناصر القوة لدى الفريق الإسرائيلى؟… ويجيب؛ كان لقوتهم مصدران رئيسيان هما:
العلم.
دعم الدولة.
معرفة اللغات.
التقدم يبدأ بتأسيس مدارس قومية علمية
أدرك الدكتور القصاص أن تأسيس مدرسة قومية علمية هو أحد الشروط الأساسية التى تضمن امتلاك ما يعرف بـKnow How، وتجعل من أى دولة أن تفاخر وأن تنافس. ومدرسة قومية تعنى مدرسة بطعم مصرى أو صناعة مصرية خالصة.
فعمل ما بين عامى 1950 و1970، على مجموعة من الدراسات والبحوث التأسيسية التى يستهدى بها فى فهم حياة النبات فى الأراضى الجافة، ساهمت هذه المجموعة فى: «نشأة مدرسة علمية شاركنى (لاحظ كلمة شاركنى فيها الدكاترة مصطفى إمام محمود، ومحمود عبدالقوى زهران، ومحمد سامى الأبيض، ووليم عبدالله جرجس. لقد ساهمت هذه البحوث فى معرفة وجود ماء فى بعض الأراضى، وإمكانية الاستفادة من ذلك. أيضا من خلال تتبع حياة بعض النباتات وتكوين جذرها يمكن معرفة كيف تحصل على الماء وعليه اكتشاف المنابع والآبار المائية. وفى نفس الوقت استطاعت هذه المدرسة التأكيد على الفوائد العلمية الجمة من المسوح الحقلية فى مجالات التربة وما تضم من كائنات دقيقة، والأعشاب، والحشرات، وكيفية توظيف ذلك زراعيا وصناعيا».
فى أثناء هذه الفترة أنجز الدكتور القصاص خريطة نباتية لصحراء مصر الشرقية، كما شارك العالم الأسترالى ادوارد هيلز فى إعداد الفصل الخاص عن حياة النبات فى المرجع الذى كلفته بإعداده اليونسكو عن علوم الأراضى الجافة عام 1966. هذا ويشار إلى قدرته فى منازلة الوفد الإسرائيلى فى أحد المؤتمرات ـ فى عام 1959 ـ لم يكن الحال كما كان الحال فى أول مؤتمر حضره، والذى أشرنا له فى البداية.
ولأن أحد شروط تأسيس مدرسة قومية علمية هو المسح الأولى الذاتى للإمكانات بأيدٍ وطنية من خلال اشتباك مباشر مع الطبيعة فى حالة العلوم التطبيقية والواقع فى حالة العلوم الإنسانية. خصص الدكتور القصاص جانبا من حياته لرحلة قام بها لدراسة النبات فى منطقة السدود جنوب السودان. كانت الرحلة شديدة الصعوبة فى ظل وسائل نقل وتنقيب بدائية.
وفى هذا المقام يحرص القصاص على أن يشيد بمدى مسئولية مؤسسة الرى المصرية حيث يقول: إنها «ذات شأن ولها باع فى دراسات رصد هيدرولوجيا النهر (حركته وتقلباته ومساره)، ويذكر رواد النهر الكبار الذين انشغلوا بضبط النهر، والحفاظ على الموارد المائية وزيادتها من خلال مشروعات حيوية، وكيف أن مشروع جونجلى من الأهمية بمكان الأخذ به. ومن هؤلاء «المهندس المصرى العظيم يوسف سميكة.
ولعل هذه الكلمات تثير لدينا شجونا كثيرة حول ماذا فعلنا بنهرنا العظيم.
العالم الحقيقى هو من يدرك قيمة الآخرين
يضع القصاص تقليدا شديد الرقى فى أهمية أن يعطى المرء كل ذى حق حقه. فها هو يذكر الأساتذة والدكاترة أحمد مجاهد كرائد لمجال علاقات النبات بالماء فى الأراضى الجافة، وعبدالحليم منتصر رائد دراسات البيئة الذاتية للأنواع، وتادرس منقريوس تادرس رائد دراسات العشائر النباتية فى مصر، ومحمد السيد غلاب، ومصطفى الجبلى، ومصطفى العيوطى (الجيولوجى)، ونصرى مترى شكرى، ومحمود إبراهيم عطية، ورشدى سعيد… إلخ. وتجد عبارات من نوعية:
صحبتى لفلان فتحت بصيرتى إلى كذا وكذا..
تعلمت من صحبة أهل العلم..
لقد سبقنى فلان فى هذا الأمر..
وفى هذا المقام نجده يذكر الفريق العلمى الذى تكون من 20 خبيرا وعالما فى مختلف التخصصات (الجيولوجيا، وموارد المياه، والأراضى، والنبات، والحيوان، والحشرات، والجغرافيا، والأنثربولوجيا)، وذهب إلى سيناء فى عام 1951 لدراسة المنطقة الشرقية من شمال سيناء. ويقول القصاص عن هذه البعثة بعد أن شرح دور كل عضو فى هذا الفريق وأهميته، بأنها:
«كانت بعثة فريدة ولعلها الأولى، فيما بعد الفريق العلمى الذى صاحب نابليون إلى مصر وأعد كتاب وصف مصر، التى يحتشد فيها أكثر من عشرين من العلماء والخبراء ذوى التخصصات المتعددة ويمثلون فريقا متكاملا يقصد إلى مسح الموارد الطبيعية فى منطقة شمال سيناء.
ومن أسف أن هذه التجربة الرائدة لم تتكرر… ولعلى أذكر أن هؤلاء جميعا شاركوا متطوعين لم يطلبوا بدل سفر أو مكافآت، وإنما أقبلوا على العمل بإخلاص وحماس».
ولعل هذه الكلمات تطرح مجددا أين فرق البحث العلمى لدينا، وماذا عن سيناء ومدى حاجتنا إلى تجديد هذه الخرائط؟.
رحم الله القصاص واحد من أهل الكفاءة والإنجاز… ونحن على ثقة أن رحم الوطن سوف يخرج منه من يعوضنا عن هؤلاء البناة الكبار.