عام مر على انطلاق الموجة الأولى من الحراك الشبابى الشعبى الثورى.. ما الذى جرى خلال هذا العام.. يمكن القول إن 25 يناير فى انطلاقته الأولى كشف المستور من ترهل وتدهور وفساد واختلال حاد فى كل المنظومات: الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية وهو ما عبرنا عنه يوما منذ عامين «بأحوالنا التى لا تسر». بسبب المصالح والتربيطات التى تكونت عبر عقود والتى نسجت ما لم أزل أصفه «بشبكة الامتيازات المغلقة» التى تتعامل مع أرقام مليارية وربما تريليونية أوصلتنا إلى الحال غير المقبول.
. حال كشفته 25 يناير ولكنها ليست مسئولة عنه.. وصلنا إلى 25 يناير 2011 ببشرى ميلاد جديد: حورس جيلى وثقافى وسياسى واجتماعى جديد.. بيد أن الشبكة جعلت الميلاد الجديد يتعثر ويدخله فى مخاض صعب. وهو ما خلق مسارات متوازية للفعل الثورى الذى انطلق فى العام الماضى. مسار الميدان (التغيير الجذرى) وبالتوازى مسار البرلمان (الإصلاح السياسى) ومسار العنفوان (القوة) الذى كان يتم استخدامه لإعاقة مسار لحساب الآخر. وبتنا أمام مسارات ثلاثة أو ما وصفناه مبكرا بنزاع الشرعيات الذى فعل فعله الإيجابى فى فرز المواقف الحقيقية من مع التغيير ومن ضده ومن فى المنتصف، على غير ما أراد الذين أججوا هذا النزاع. على أن ما نشاهده فى الأيام الماضية يعطى الأمل أن حورس «آت آت» مهما طال الزمن. فالتغيير الذى حدث لم يدخل إلى العمق بعد.. إنه نفس الشعور الذى انتابنى فى يوم السبت 29 يناير 2011 عندما كتبت مقالى «عن أحوالنا التى رفضتها مصر الشابة» ونشر فى يوم الاثنين 31 يناير بجريدة «الشروق». ويمر عام وأشرع فى كتابة مقالى ليوم الاثنين 30 يناير 2012 ورأيت أن أعيد نشر مقالى الأول لسببين: الأول، لنتذكر الأسباب التى أدت إلى 25 يناير الأول ونؤكد أن الرفض لم يزل قائما، الثانى لأن مقالى الأول لم ينشر إلكترونيا (نشر ورقيا فقط) بسبب القطع الأمنى لشبكة الانترنت آنذاك.
حورس الذى ننتظره
هذا ليس مقالا تحليليا بالمعنى الذى تعودنا عليه.. وإنما خواطر تداعت لدى من حصيلة أسبوع حاسم شهدته مصر لم يكن بعيدا عن توقعنا.. سيناريو توقعه الكثيرون.. حذرنا من السياسات التى سوف تؤدى إليه وتحديدا ما عرف بالسياسات النيوليبرالية (راجع ما كتبناه فى نفس المكان منذ أسبوعين وعنوانه «إنها الطبقة الخطيرة».. وقبلها مقالات: «العدل والاعتدال»، «المساواة التفاوت هذا هو السؤال؟»، «ضرورة فك الارتباط بالسياسات النيوليبرالية»،لفت النظر إلى لزومية أن تكون «انتخابات 2010 مؤسسة لشرعية جديدة تضمن المساواة بين المصريين»، و«دولة الرفاهة التنموية».. هذا بالإضافة إلى دراستين مطولتين هما: قصة الليبرالية الجديدة وأخرى عن أزمة السوبر رأسمالية).. ربما ليس هذا هو الوقت المناسب لتقييم ما جرى بشكل علمى دقيق.. ولكن هذه بعض الخواطر التى وجدتها تجول من حولى وأجول حولها، بعضها ذكرته من قبل، تحضرنى فى لحظة حرجة من تاريخ الوطن محظور فيها التجول الجسدى، وهى تجربة شهدها جيلى ثلاث مرات لعل أخطرها هذه المرة..
حارة نجيب محفوظ وما جرى فيها
فى المجموعة القصصية «صدى النسيان» لنجيب محفوظ (صدرت فى عام 1999)، نقرأ كيف رأى أديبنا مستقبل الحارة.. فها هو أبوعبده (قصة الهتاف) يعود إلى الحارة وبالرغم من طلاء الأبهة والعباءة والعمامة والعصا والمركوب، فقد عرفه كثيرون.. وسرى الخبر فى الحارة.. فلقد راحت خرابة تتحول إلى سراى لينزل به ذلك الرجل الذى غادر الحارة إلى أطراف الحى وجمع ثروة ضخمة من أحط السبل».. ولهف أبوعبده مع إعداد السراى ليبدأ ممارسة سيادته.. ولم يعن أحد بالنظر إليه.. ولما حاول شيخ الحارة أن يلفت نظره إلى ابتعاد الناس عنه.. فطمأنه أنه سوف ينجح فى كيف ينوه الناس عنه وعن مشروعاته وأعماله الخيرية.. وسوف ينضم إليهم شيخ الحارة نفسه.. وبدأ يغازل الناس بالمال الذى لا يراه أهل الحارة إلا كل حين ومين.. وهنا همس شيخ الحارة فى أذن الإمام:
«أذكر هذه اللحظة التعسة فقد تكون بدء تاريخ طويل من الفساد فى حارتنا الطيبة»..
قال هذا وهو لا يهمه نوايا أبوعبده فكل ما يهمه هو: «الأمن العام».. !!!
إفساد نعم ولكن دون خلل بالأمن العام..
ولا يصح أن يزعزع أى شىء أمن الحارة (قصة تحت العمامة عريس)..
مر الوقت على الحارة.. وانشغل الجميع بالبيع والشراء والضحك والحزن والصخب. وبدت ناسية تماما لعهد البطولة والأبطال.. ترى هل ضاعت التضحية هباء؟
كان هذا السؤال هو ما يشغل بطلنا (حافظ) الذى دفع ثمن بطولته من عمره، وعاد إلى الحارة حيث استقرت عينه حائرة على لافتة فى أعلى وكالة كبيرة كتب عليها «الرمامى وأولاده»..
وراح يتذكر القدر وهو يلعب بالبطولة والخيانة ويوزع الأبطال والخونة ما بين السجون والمتاجر..
بيد أن شيخ الحارة أخذ ينصحه بأن يعمل «فالسوق يسع «الجميع. وينبغى ألا يعود إلى تلك الأوصاف.. وألا يتذكر ثانية الأبطال والخونة،لأن الأمور نسبية.. ولأن القانون لن يسمح بغير ذلك..
رد عليه حافظ:
هذه الوكالة فتحت بالمال المدفوع ثمنا لخيانتنا، فكانت الوكالة فى ناحية والسجن والمشنقة فى الناحية الأخرى، فهل ترضيك هذه القسمة؟
فقال شيخ الحارة بحسم:
يرضينى ما أجد القانون عنه راضيا..
قانون الحارة الجديد هو «قانون السوق».. فلا مكان للذاكرة.. ولا مكان للأبطال..
فى نفس الحارة (قصة الأرض) يتناول الكاتب واقعة حدوث زلزال مفاجئ للحارة.. مدته لم تتعد 30 ثانية ولكنها كانت كافية لكى تفصل بين مشهدين متناقضين.. مشهد كانت فيه الحارة هادئة وآمنة وأهلها خاملون، ومشهد انفجر فيه الرعب من الأعماق واجتاح القلوب وغدر بالآمال فلم يبق إلا المجهول فمادت الأرض ورقصت رقصة الموت.. فلقد اختلطت الأصوات أيما اختلاط.. ولم يجد شيخ الحارة إلا أن يقول: وحدوا الله.. فى يومنا هذا يمتحن الله عباده..
فجاءته الأصوات: أهلى تحت الأنقاض، نريد رجال الإنقاذ.. وتكاثرت المطالب..
فصاح شيخ الحارة:
أبلغت السلطة وطلبت اللازم. لابد من الصبر لأن الطلبات كثيرة..
ألا نسمع هذه الردود فى واقعنا كثيرا.. ويطالبنا أهل السلطة بأن نتعاون ما أمكنا وأن نعتمد على الله وعلى أنفسنا حتى يجىء الفرج.. تماما مثلما طالب شيخ الحارة أهلها.
فى غمضة عين انكشف كل شىء..
الشباب يرفض قوانين الحارة الجديدة
لقد كان للشباب رأيه فى رفض قوانين الحارة الجديدة: السوق، والفساد، وأخيرا الانهيار الذى طال الحارة.. الأمر الذى أدى إلى أن ينكشف كل شىء.. خرجوا يعيدون الروح للوطن.. كتلة شبابية تعبر عن مصر الشابة.. مصر التى لم نلتفت أن 80% من مواطنيها تحت سن الأربعين أى 65 مليون نسمة.. وأن نصفهم تماما تحت سن الـ 15بما يعنى هذا من ضرورة توفر فرصة رعاية وتعليم وصحة وعمل وسكن وزواج وحياة كريمة.. كتلة شبابية يتقمصها حورس وهو يعيد الروح لأوزيريس الوطن رافضا الفساد والإفساد وطالبا إعمال القانون والمساواة ومجددا لذاكرتنا الوطنية ومانحا أمل فى المستقبل لنعرف من نحن وماذا نريد.. كان لسان حال الشباب ما جاء على لسان حورس قائلا:
حورس: انهض.. انهض يا أوزيريس..
أنا ولدك حورس..
جئت أعيد إليك الحياة..
جئت أجمع عظامك..
وأربط عضلاتك.. وأصل أعضاءك
أنا حورس الذى يُكوّن أباه..
حورس يعطيك عيونا لترى..
وأذنا لتسمع.. وأقداما لتسير..
وسواعد لتعمل..
ها هى ذى أعضاؤك صحيحة..
وجسدك ينمو..
ودماؤك تدب فى عروقك..
إن لك دائما قلبك الحقيقى..
قلبك الماضى..
الميت: إنى حى.. إنى حى..
ليتنا نفهم الدرس ونعمل معا فى بناء الوطن.. ونلحق بالدنيا الجديدة..