2011 كان عاما «غير»، كما يقول اللبنانيون.. أى مختلف بكل المقاييس.. فعلى الرغم من البداية الدموية البشعة التى طالت الأبرياء فى حادثة كنيسة القديسين بالإسكندرية.. إلا أن 25 يناير جاء يحمل البشرى للمصريين من خلال حراك وطنى يرفض استمرار الأوضاع على ما هو عليه.. وهو ما عبرنا عنه وقتها بمقال نشر فى الشروق الورقية بتاريخ 31 يناير عنوانه «عن أحوالنا التى رفضتها مصر الشابة» (ونظرا لانقطاع خدمة الإنترنت آنذاك لم ينشر فى الطبعة الإلكترونية للجريدة).. ومثل هذا الرفض بحسب التعبير الذى ذكرناه مبكرا «الموجة الأولى» من الحراك اتسم بالشبابية:
جيليا، والامتداد الجماهيرى القاعدى: اجتماعيا،أنجزت انجازا فزا تمثل فى اسقاط حاكم مصر وبات لدينا حاكم سابق ما يعنى التأسيس لشرعية جديدة إلا أن المسار لم يصل بنا إلا ما كنا نتمناه من تغيير.. فما الذى حدث؟
فى البدء الموجة الأولى من الحراك الوطنى ورؤيتها
قام الحراك الشبابى على رفض قوانين السوق التى أضرت بالمصريين، وبالفساد الذى ساد، وبالإخلال بالقيم الجمهورية وعلى رأسها الترويج لفكرة التوريث التى تتناقض وجوهر الجمهورية. وقلت كيف إن الشباب قد تقمصه حورس وهو يعيد الروح لأوزيريس / الوطن رافضا الفساد والإفساد وطالبا إعمال القانون والمساواة ومجددا لذاكرتنا الوطنية ومانحا أملا فى المستقبل لنعرف من نحن وماذا نريد.. كان لسان حال الشباب ما جاء على لسان حورس قائلا:
حورس: انهض.. انهض يا أوزيريس..
أنا ولدك حورس..
جئت أعيد إليك الحياة..
جئت أجمع عظامك..
وأربط عضلاتك.. وأصل أعضاءك
أنا حورس الذى يُكون أباه..
حورس يعطيك عيونا لترى..
وأذنا لتسمع.. وأقداما لتسير..
وسواعد لتعمل..
ها هى ذى أعضاؤك صحيحة..
وجسدك ينمو..
ودماؤك تدب فى عروقك..
إن لك دائما قلبك الحقيقى..
قلبك الماضى..
الميت: إنى حى.. إنى حى..
التأسيس لنهوض شامل وكامل، كان هو جوهر الموجة الأولى من الحراك الوطنى الشبابى الشعبى الثورى (راجع مقالنا فى الشروق فبراير الماضى) نهوض يقوم على: تمكين المواطن، وتجديد الوطن بمؤسساته، وتفعيل الوطنية المصرية. ولكن ما أن سرنا فى اتجاه استفتاء 19 مارس حدث تحول جذرى.. ما الذى جرى؟
شرعيات ثلاث: الميدان والبرلمان والعنفوان
حل العراك الدينى محل الحراك الوطنى والذى سرعان ما تحول إلى اشتباك ميدانى تسيل فيه الدماء بداية من إمبابة مرورا بالبالون وماسبيرو ومحمد محمود وأخيرا شارع مجلس الأمة. وظل يحدو بشريحة ليست قليلة حلم التغيير الثورى ولكنه بات محاصرا بجولات متتالية دموية وبين جولات سياسية إصلاحية. وتعذر على هذه الموجة أن تستكمل بموجات أخرى على عكس ما يردده البعض وفى نفس الوقت لم يستطع المسار السياسى الاصلاحى أن يكون امتدادا مقبولا لهذا الحراك، وواكب ذلك موجات دموية متكررة.. وهنا الإشكالية.. كيف؟
بات الحراك الوطنى محاصرا بين جولات دموية وانتخابية. وكل مظهر من هذه المظاهر له وجاهته وأطرافه الداعمة والشرعية التى ينطلق منها. فمن جهة لم يزل هناك من يحمل فى داخله النقاء الثورى من أجل أن يرى ما يستحقه المصريون متحققا على أرض الواقع ما يعنى استمرار الثورة التى تعنى التغيير التام بمنطق الثوب الجديد ورفض الرقع الجديدة. ومن جهة ثانية هناك من يرى أن تحقيق ذلك يكون من خلال الدخول فى العملية الانتخابية والبدء عقب تشكل البرلمان فى تنفيذ مطالب الثورة والسير فى خارطة الطريق الخاصة بنقل السلطة. ومن جهة ثالثة نجد استخدام القوة وقد زاد بشكل مطرد عبر الكثير من الجولات ما أسفر عن قتلى ومصابين بأعداد كبيرة. وفى هذا المقام نجد المسئول وقد تراوح بين الأمن والبلطجية والطرف الثالث الدائم الغموض.
فى ضوء التجليات السابقة: الثورية والسياسية الإصلاحية والعُنفية، وجدنا أنفسنا أمام شرعيات ثلاث لكل منها ما يبررها.. الحراك الثورى ويستمد شرعيته من الميدان والإصلاح السياسى الذى يتبلور من خلال العملية الانتخابية والتى تصب فى برلمان منتخب واخيرا القوة بأبعادها مع اختلاف الدوافع: الدولتية (نسبة للدولة) حفاظا على الدولة وهيبتها، والثروية نسبة لأهل الثروة الذين يقومون بتوظيف القوة لمصالحهم ولأطراف شبكة الامتيازات المغلقة، وأخيرا استخدام القوة من قبل الطرف الثالث الغامض الهوية. شرعيات ثلاث تتنازع فيما بينها. بل أحيانا تتداخل بعض العناصر من أنصار شرعية الميدان للقبول بالدخول فى شرعية البرلمان وهو متحفظ على ذلك والعكس أيضا ونجد أنصار شرعية القوة يبدلون مواقعهم حسب الظروف وترتبك سلطة الدولة فى استخدام القوة من الافراط إلى التقتير وفى مواجهة من يستحق أن توجه له القوة. فتعطى أولوية استخدام القوة ضد المسالمين وأصحاب الحقوق قبل قاطعى الطرق.
ختاما لابد أن ندرك أنه لن يستقيم بناء الوطن إلا بالتواصل والتفاعل بين الشرعيات. شرعية الميدان أو الثورة والتى لابد من أن تكون مدخلا لشرعية البرلمان، وشرعية البرلمان لابد من أن تكون تعبيرا لشرعية الميدان. فلن تكتمل شرعية هذا البرلمان إذا ما أصر البعض على أن يتصور أنه يمكن له أن ينعزل عن العملية التغييرية الثورية التى تحتاجها مصر لمواجهة الانهيار الشامل الذى بدأ منذ عقود وطال كل مرافق الدولة وكأن النصر نوع من الغنيمة النبتة الصلة عن السياق التاريخى المجتمعى. وتأتى شرعية القوة لتكون حامية وحارسة للدولة المتجددة. والدولة التى نقصدها هنا هى دولة المواطنة / دولة كل المصريين وليس دولة الأقلية الثروية أو شبكة المصالح / الامتيازات المغلقة أو الدولة المذهبية كما بشر برنارد لويس. إن الأمر يحتاج إلى حوار وطنى جاد وصريح لمعالجة مشكلات مزمنة ومتكررة.
إن معركتنا يا سادة هى تجديد الوطن وإقامته من عثرته وتمكين المواطنين لا قتلهم.. لابد من وقفة من اجل عدم إراقة الدماء.. وهنا أتذكر كلمات لوول سوينكا (أديب نوبل النيجيرى فى «حصاد كونجى» ترجمة نسيم مجلى) يقول فيها:
الحياة فقط هى التى تستحق أن نبشر الناس بها..
اللعنة على كل صانعى القيود والسلاسل، وكل زارعى الرعب وعلى بناة السجون والذين يقيمون الحراسات بالليل وينشرون الظلام بالنهار.. اللعنة على ذوى الأقدام الثقيلة الذين ما زالوا يضغطون على قلب العالم.
الحياة.. الحياة.
اللعنة على كل من يرون لا بعيون الموتى، ولكن بعيون الموت.
الحياة، إذن، فلنعزف ترنيمة الحياة.
والثورة والتغيير والتقدم…