فى أثناء عودتى فى الطائرة من رحلة لتركيا يوم الجمعة الماضى كانت كثير من الأفكار والانطباعات تتداعى حول ما رأيت على أرض الواقع من تفاعلات فى التجربة التركية، استعدادا للكتابة عنها، خاصة لوفرة ما تحصلت عليه من معرفة ميدانية حول التجربة كذلك لكثرة ما قرأت عنها، فى محاولة لمعرفة الظاهرة من داخلها. لم تكن الرحلة لحضور ندوة أو لقاء بحثى أو ما شابه كما اعتاد المرء فى الأغلب الأعم، وإنما كانت الرحلة للاطلاع على تجربة المحليات فى مدينة اسطنبول. فلقد كشفت الرحلة الكثير عن عمق ما حدث فى تركيا على مدى عقدين من الزمان، فى هذه الأثناء وزعت علينا فى الطائرة بعض الصحف من ضمنها جريدة «الشروق» فقرأت مقالا للدكتور جلال بعنوان: «التديُن والتقدم»، وجدته يعبر ــ على قصره ــ عما يجول بخاطرى من أفكار حول العلاقة بين الدين والمجتمع، وبين التدين والتقدم،
والتقدم وامكانية التعايش بين التدين واللا تدين، وحول الهوية، والخطاب الدينى، وعن السياق الإقليمى والدولى ودوره فى تأجيج ظاهرة الدينية، وذلك فى ضوء رحلة السيد طيب أردوغان إلى القاهرة، وما أثارته من أفكار وتساؤلات حول الواقع المصرى. وواقع الحال رأيت أن ما كتبه الدكتور جلال قد جاء فى وقته وأنه من المفيد المشاركة فيما طرحه فى محاولة لفهم العلاقة بين التقدم والتدين فكرا وخطابا وممارسة فى كل من الخبرتين: المصرية والتركية.
تقدم أو تخلف السياق المجتمعى يحدد شكل التدين
نقطة البدء لدينا أننا نميز بين الدين الوحى فى صورته النقية المنحاز للمبادئ المطلقة كالحرية والعدالة والمساواة، وبين التعبيرات المتعددة للدين. فهذه التعبيرات يحددها السياق المجتمعى بالدرجة الأولى، ومدى تقدمه أو تخلفه. فقطعا التعبير الدينى يختلف فى سياق متقدم ومنتج وحداثى ويعتمد على نفسه عن سياق ريعى يعتمد على الآخرين. ويتعلق الأمر بأن التدين فى كل حالة يرتبط إلى حد كبير بالسياق المجتمعى بأبعاده المتعددة: الاقتصادية والسياسية والثقافية. وهنا يأتى التمييز ضروريا بين الدين والتدين كما عبر الدكتور جلال أمين فى مقاله. بلغة أخرى يمكن القول إن السياق المجتمعى من حيث الطبيعة الاقتصادية والثقافة السائدة يحدد إلى حد كبير نمط/ أنماط التدين.
وعليه نقول بأن هناك علاقة شرطية وجدلية بين التدين وبين اللحظة الزمنية التى يتم فيها تشكل الفكر والخطاب الدينى لهذا التدين. بمعنى أن التدين هو «ابن زمانه» لأن من يعبر عنه هم بشر فى النهاية لهم مصالحهم وعلاقاتهم وتحيزاتهم. وأن الفكر/ الخطاب الدينى: الفقهى واللاهوتى، هما نتاج جهد مبذول فى التفكير فيما جاء بالنصوص ودراستها بما يوفر إجابات لأسئلة يطرحها الواقع فى لحظة زمنية معينة. وهو ما يمكن أن نطلق عليه الاجتهاد الفقهى أو التجديد اللاهوتى. إنها المحاولة البشرية المبدعة فى إعادة قراءة النصوص الدينية فى لحظة تاريخية معينة.
التقدم والتدين: مراحل الصعود والهبوط فى الخبرة المصرية
المراجع للعلاقة بين التقدم والتدين فى الخبرة المصرية يمكنه أن يلحظ أنها مرت فى أربع مراحل. بقدر ما كان السياق المجتمعى بعناصره المتعددة متقدما بقدر ما انعكس ذلك على التدين: فكرا وخطابا وممارسة، يتجلى فى طبيعة اهتمامات العقل الدينى والقضايا التى يشتبك معها والمفردات التى يتداولها والأولويات التى يطرحها. ويمكن إيجاز المراحل الأربع منذ محمد على وإلى الآن كما يلى:
● المرحلة الأولى: المرحلة التأسيسية من محمد على إلى مطلع القرن العشرين، حيث اتسمت هذه المرحلة بالاستنفار والإحياء. وهذه المرحلة بدأت فى منتصف القرن التاسع عشر مع بدء الاحتكاك بالغرب سواء على المستوى الإسلامى الحضارى أو على مستوى المسيحية مع بدء صراعها مع الإرساليات التبشيرية.. وفى هذه المرحلة بدأت المؤسسات الدينية تقوم بعملية إحياء ذاتى تعليمى، وفى إعادة البناء المؤسسى الداخلى لكل من الأزهر والكنيسة.
● وثانى هذه المراحل هى المرحلة: الليبرالية/ الراديكالية من 1919 إلى 1969، حيث عُنى الفكر الدينى بقضايا الحداثة والتحديث وذلك بالمقاربة العقلية للإيمان وبالاشتباك الجرىء مع قضايا الواقع الاجتماعى. وكان الفكر الدينى فى هذه المرحلة الممتدة يخوض فى مناطق كان لا يخوض فيها من قبل حيث قام بأمرين هما: انتج مقاربات عقلية للإيمان وتطرق لقضايا مثل قضايا التطور والعلوم التطبيقية الجديدة وذلك فى المرحلة الليبرالية، كما اهتم الفكر الدينى فى المرحلة الراديكالية بالقضايا المجتمعية مثل قضايا الفقر والمساواة بين الطبقات والتنمية..
● والمرحلة الثالثة يمكن أن نطلق عليها: «المحافظة» من 1969إلى 1979، حيث خاصم الدين الحداثة وانكفأ على نفسه. اعتبرت الحداثة عدوها الأول لأنها تتلاعب بسنن الله.. ويلاحظ أن هذه المرحلة هى المرحلة التى شهدت قيام الثورة الإيرانية واختطاف التيار المحافظ لها كذلك حصار حركة لاهوت التحرير وبزوغ اليمين المسيحى الجديد فى أمريكا أى غلبة التيارات المحافظة فى الفكر الدينى (وهما الحركتان اللتان درسناهما تفصيلا فى وقت مبكر).. ونحن لم نكن بمعزل عن هذا السياق.. زاده محافظة هو التوتر الدينى الذى شهدته مصر.
● أما المرحلة الرابعة فيمكن وصفها: «بالشكلية» حيث الفكر الدينى يتردد فى مواجهته للتحولات التى جرت بفعل اقتصاد السوق والتداعيات التى حدثت ليس اقتصاديا فقط وإنما ثقافيا. فلقد توارى الإنسان صورة الله وخليفته فى كل من اللاهوت والفقه، لحساب إنسان السوق. واقتصر جل الفكر الدينى على كيفية شكل التدين دون الاجتهاد بالاشتباك مع جديد العصر، وتسويق أن الفقر تتم معالجته بالأعمال الخيرية.. وتراوح الفكر الدينى بين استعادة كتب التراث دون إجراء معالجات تجديدية، لذا غابت المقاربات العقلية للقضايا الإيمانية كما توارت المقاربات المجتمعية المعنية بالمساواة وفهم ما يطرأ على البنى السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
العلاقة «جدلية» بين التقدم والتدين
الخلاصة، هناك علاقة جدلية بين التقدم ونمط التدين، فكرا وخطابا وممارسة، فكلما كان المجتمع يناضل من أجل النهوض ينعكس ذلك إيجابا على التدين وعلى الفكر الدينى من حيث أولوية الموضوعات التى يناقشها ونوعيتها وطبيعتها وجودة الاجتهادات إيجاد إجابات مبدعة ومتجددة للتحديات الفكرية المطروحة والاشتباك البناء مع قضايا المجتمع الحقيقية ووجود تراكم على لهذه الاجتهادات وليس البدء من جديد كل فترة زمنية، ورقى الخطاب الدينى المنتج وعلى الممارسات حيث السلوك يتطابق مع التحضر والعكس صحيح. وهذا ما اختبرته الخبرة المصرية.
من هنا أيضا يمكن أن نرى التجربة التركية التى تم بها «غزل» تجربة متميزة بازغة بقوة استطاعت أن تصالح بين الدين والثقافة القومية التركية من جهة، وبين ما يعرف «التوليف» التركى الإسلامى والتقدم من جهة أخرى. وعليه نتجت اجتهادات تنموية تراعى العدل والإعمار المتكافئ بين الناس وبلورة رؤى تنموية تأخذ بالنظرة الإلهية فى تأمين حياة كريمة لبنى البشر. واستطاعت أن تتيح «براحا» للتعايش بين التدين والعلمانية كان مثار دهشة لدينا حيث الاحترام مكفول والمسافات منضبطة داخل هذا البراح.. إنها تجربة ثرية بكل المقاييس تؤكد ما حاولنا طرحه وسوف نعرض لها تفصيلا فى وقت لاحق.