قراءة تجارب الآخرين متعة، خاصة إذا كانت هذه التجارب تعكس ظروفا مشابهة لواقعنا. ذلك لأنها تتضمن دروسا مستفادة تكون ملهمة لنا فى تبنى مقاربات مبتكرة بما يلائم واقعنا، وتجنبنا أن نكرر الأخطاء التى وقع فيها من سبقنا فى خوض عملية التحول السياسى. فى هذا السياق أقدم تجربة تشيلى فى التحول السياسى وهى التجربة التى وصفها أحد الباحثين «بالتحول المزدوج» (2008)…ما هى طبيعة هذه التجربة وملامحها وما طبيعة التحول السياسى المطلوب فى الحالة المصرية؟
التحول المزدوج.. تشيلى نموذجا
فى عبارة بسيطة يمكن أن نعرف عملية «التحول المزدوج» التى شهدتها تشيلى، بأنها العملية التى سعت إلى كسر الاحتكار السياسى والاقتصادى فى آن واحد والتى كرسها النظام السلطوى على مدى ما يقرب من عقدين من الزمان. الاحتكار الذى تقوم به «أقلية» فى ادارة العمليتين السياسية والاقتصادية لحسابها وتستفيد بعائد هاتين العمليتين على حساب باقى مكونات الجسم الاجتماعى. وعليه يكون الغرض النهائى من هذا التحول هو إعادة توزيع اقتسام المنافع العامة السياسية والاقتصادية على الأغلبية المستبعدة والمهمشة من قبل الأقلية الاحتكارية.
قبل الأخذ بمنهج «التحول المزدوج»، ثار نقاش خلاصته: هل نجرى اصلاحات سياسية فيما يخص العملية الديمقراطية أولا ؟أم نجرى اصلاحات اقتصادية اولا؟ وكان القرار من قبل القوى السياسية بمختلف أطيافها هو ضرورة الأخذ «بالتحول المزدوج». فهناك علاقة متداخلة وثيقة بين السياسة والاقتصاد، وبين السلطة السياسية وبين القوة الاقتصادية. بلغة أخرى، لن يستقيم اجراء اصلاحات سياسية دون تغيير فى التوجه الاقتصادى والعكس صحيح. فإذا صبت الاصلاحات السياسية فى اتجاه لا يخدم إلا الأقلية الثرية التى تملك المال فهذا يعنى اعادة النظام القديم دون الأخذ فى الاعتبار القوى الصاعدة: سياسية وفئوية وعمالية وشبابية.. وفى نفس الوقت يحتاج الأمر تجاوز السياسات الاقتصادية التى « تُخدم» على الأقلية الثرية بما يتيح العدالة الاجتماعية بين من يملك ومن لا يملك وتكافؤ الفرص بين كل المواطنين فى شتى مجالات الحياة من تعليم وصحة وعمل.. إنها عملية إعادة التوازن لمنظومة علاقات القوة فى المجتمع بين كل المواطنين بغض النظر عن الموقع السياسى والمكانة الاقتصادية.
المبدأ الرئيس الحاكم الذى انطلقت منه عملية «التحول المزدوج» هو فتح كل المجالات: السياسية والمدنية والاقتصادية أمام جميع المواطنين دون تمييز، من حيث حرية تكوين الأحزاب وتشكيل التكوينات المدنية بكل أشكالها دون قيود. وفى نفس الوقت فتح أفق الاستثمار أمام أجيال جديدة من الشباب من خارج الشبكة المغلقة الاحتكارية وفى مجالات متوسطة وصغيرة وفق مشروع تنموى للنهضة الاقتصادية.
خلاصة القول، مثل «التحول المزدوج» عملية تغيير جذرية فى مواجهة النظام السلطوى البيروقراطى التكنوقراطى فى الحالة التشيلية ،فتح أفقا أمام نهضة اقتصادية شاملة جعلت تشيلى فى المركز التاسع فى قائمة مصدرى «السوفت وير» وفى نفس الوقت استوعبت أطيافا متنوعة من القوى المدنية والسياسية حققت بها تطورا ديمقراطيا تعكسه بوضوح السلاسة التى تشهدها عملية تداول السلطة من خلال الانتخابات من تحالف يسارى إلى توجه ليبرالى. ماذا عن الحالة المصرية فى ضوء ما سبق؟
ضرورة التحول «المرَّكب» فى الحالة المصرية
دافعى لعرض التجربة التشيلية فى التحول هو التنبيه إلى أن الاتجاه الذى يبدو لى أننا ننتهجه فى إدارة عملية التحول والذى يميل إلى الجانب الإجرائى دون أى أمر آخر، والسكوت التام عن التحاور حول أى نموذج تنموى نريده لمصر، لن يضمن لنا التحول الذى يلبى مطالب الحراك الشبابى الشعبى التغييرية. ويعنى ما سبق أننا فى الأغلب سوف نسير فى اتجاه لا يحقق تغييرات جذرية وإنما يؤدى إلى حلول تسكينية سوف تؤدى إلى تكرر موجات الحراك وخاصة ليس فقط من قبل الشرائح الوسطى ولكن من قبل الشرائح الدنيا والطبقة الخطيرة المهمشة التى تحُزم المدن فى مواقع غير آمنة وغير انسانية والتى أشرنا إليها مبكرا.
إن القراءة الأولية لحجم التحديات التى تواجهنا فى الواقع تشير إلى أن ما يقرب من 40 % من سكان مصر تحت سن الـ15 أى ما يقرب من 35 مليون مواطن وهو ما يلزم ضرورة توفير فرص غذاء صحى وتعليم وعمل وسكن لهؤلاء الملايين. وأن ما يقرب من 20 مليون مصرى يعانون من فيروس سى الكبدى.. وأن 30 % يعيشون تحت خط الفقر… وأن نسبة التسرب من التعليم الإلزامى تقترب من 35 %.. وأن مصر لم تزل تعانى من نسبة أمية تصل إلى 40 %.. وأن المصريين يصرفون ما قيمته 25 مليار جنيه على الدروس الخصوصية وهو رقم يساوى أو ربما يزيد ما ترصده الدولة من ميزانية للتعليم.. وأخيرا نأتى إلى الطامة الكبرى حيث نشير إلى ما أعلنته الهيئة المصرية القومية للاستشعار عن بعد وعلوم الفضاء، تذكر فيما يشبه التحذير من احتمال اختفاء الأراضى الزراعية فى مصر بعد 60 سنة إذا ما استمر التوسع العمرانى العشوائى بمعدلاته الحالية المرتفعة.. ونقلا عن أحدث الدراسات التى تمت باستخدام مرئيات الأقمار الاصطناعية تشير إلى أن منطقة شرق دلتا النيل قد فقدت نحو 34% من مساحة أراضيها الزراعية…وأن مصر سوف تخسر بحلول عام 2050 نحو 17% من مساحة الدلتا نتيجة الزحف العمرانى العشوائى على الأراضى الزراعية…يضاف إلى ما سبق الكثير والكثير الذى يمتد لكل المجالات: من ضعف العملية التعليمية وتدنى الخدمات وجمود الذهنيات والخطابات الفكرية والدينية…
صفوة القول، إن الحوار المجتمعى الشامل المعنى بمستقبل مصر ينبغى ألا ننساه فى غمرة استغراقنا فى الأمور الاجرائية المتعلقة بالانتخابات على أهميتها فالمسألة متداخلة. ومن هنا وحتى يتحقق تغيير حقيقى لابد من ادارة عملية التحول بما يتجاوز الاجرائى وحتى المزدوج إلى «المركب» متعدد العناصر. ذلك لأن حجم التحديات كبير وتشابك مركبات التدهور والترهل والتخلف والريعية التى حلت بمجتمعاتنا على مدى عقود وفصلتنا عن الحداثة والتقدم. لذا التحول المركب ضرورة لأنه سوف يمتد بالإضافة إلى السياسة والاقتصاد إلى الثقافة والعلم.. بما يضمن تفكيك القديم وينتج الجديد الذى يضعنا مع من تقدموا.