وطن فى خطر

ما حدث فى مصر 25 يناير، كبير وكثير، نجح المصريون وفى طليعتهم الكتلة الشبابية أن يسقطوا رئيس الدولة وأن يصبح لديهم رئيس سابقا. وأن يحددوا مطالب حراكهم الشعبى فى صياغات مكثفة كما يلى: الكرامة الإنسانية والحرية والعدالة الاجتماعية. وأنه لا يمكن أن تحلق وتتقدم مصر بغير هذه المطالب معا. كان الحراك الشعبى يعبر بحق عن رفض وطنى شامل للاختلال المركب الذى طال الجمهورية مفهوما وممارسة. ومن ثم كان لابد من استعادة الاعتدال للجمهورية بحسب التعبير السياسى القديم من عناصر هذا الاختلال: اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء، والخصومة الحادة بين الدينى والمدنى، والترهل الذى طال الدولة الحديثة بمؤسساتها ما جعلها تعود فى كثير من ممارساتها إلى آليات ما قبل الدولة الحديثة، وأخيرا ضرب الفكرة الجمهورية فى الصميم من حيث الترويج لفكرة التوريث.. مثلما سبق دوافع قوية لأحوالنا التى رفضها الشباب (راجع مقالنا المبكر الذى نشر فى 31 يناير بجريد «الشروق» عن أحوالنا التى رفضتها مصر الشابة

وللأسف لم ينشر إلكترونيا نظرا لانقطاع خدمة الانترنت) فجاءت انطلاقة 25 يناير التى حققت لمصر والمصريين الكثير وهو ما لا يمكن الرجوع عنه. بيد أنه وبعد ما يقرب من تسعة أشهر يبدو لى أن المخاض لم يزل صعبا وعسرا وأن «حورس» رمز الأمل والتقدم والمستقبل لم ينجح بعد فى أن ينهض بالوطن. ربما بسبب قوى الثورة المضادة التى أضيرت مما حدث، كما حاولنا أن نوضح فى مقالنا السابق. كذلك بفعل كثير من التحديات البنيوية التى لم نلتفت إلى آثارها الضارة والتى أدت بنا إلى إشكاليات معقدة. وهو ما أعاقنا أن نمضى قدما فى ضوء ما قمنا به. لماذا ؟ ولكن قبل ذلك كيف؟

كيف نمضى قدما؟

ليسمح لى القارئ الكريم أن نستعير هذا السؤال من تشارلز تيللى (1929ــ 2008 ) أحد أهم علماء الاجتماع السياسى، والذى حاول أن يجيب عنه وبخاصة فى حالة البلدان التى حدثت فيها تحولات كبيرة، ونستفيد من إجابته كإطار مرجعى لمعرفة أسباب عدم المضى قدما مع محاولة الاجتهاد بما يتناسب وواقعنا المصرى. بداية حدد تيللى ثلاثة عناصر تضمن تحولا ديمقراطيا سلسا وبخاصة فى أعقاب حدوث لحظات تغيير مهمة وحاسمة، شريطة أن يكون هناك انسجام وتكامل بينه هذه العناصر من جهة وأنها منحازة ليس إجرائيا فقط وإنما قيميا للديمقراطية من جهة أخرى.

العنصر الأول يتعلق بالدولة؛ بالمعنى الواسع لمفهوم ولا نقصد هنا النظام السياسى وإلى أى حد تمارس سيادتها من خلال مؤسساتها القادرة على مواكبة جديد المجتمع بمتغيراته. وإلى أى حد تحظى بالشرعية التى تمكنها من ذلك، ورسم السياسات العامة التى تحقق التنمية والرفاهة لعموم المواطنين، العنصر الثانى يتعلق بمواطنى هذه الدولة، وإلى أى حد يشعر هؤلاء المواطنون بمواطنتهم، وقدرتهم على الاستفادة من عناصر المواطنة المتعددة من مساواة، وعدم تمييز، وشراكة فى البنى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، وأن من حقهم أن يقتسموا الثروة العامة للبلاد، وقدرتهم على التعبير والتنظيم والاحتجاج. العنصر الثالث يتعلق «بطبيعة ونوعية وآلية» العلاقة التى يجب أن تنشأ بين الدولة ومواطنيها؛ حيث تتجاوز العلاقة الصراعية State- Citizen Struggle، التى تنشأ فى أوقات الاستبداد، إلى علاقة ديمقراطية حقيقية بين الدولة والمواطنين وبين المواطنين وبعضهم البعض.

فى هذا الإطار يمكن أن نقرأ طبيعة اللحظة وما تحمل من إشكاليات معقدة فى مسيرة التحول الديمقراطى فى مصر من حيث مراجعة العناصر الثلاثة التى أشرنا إليها والتى سوف تحمل فيما أظن الإجابة عن لماذا حدثت الإعاقة التى تحدثنا عنها فى البداية.

لماذا نحن محلك سر؟

يمكن القول إنه لم تزل الرؤية غير واضحة حول أى دولة نريد لمصر. ويبدو لى أحيانا أننا ننسى تاريخية الدولة المصرية كدولة مركزية نهرية من جانب، وتجربتها الحداثية المبكرة مع محمد على من جانب آخر. والسماح بما يهدد السيادة والتراوح فى فرض الشرعية بشكل حاسم من خلال دولة القانون. يضاف إلى ما سبق عدم ممارسة كثير من مؤسسات الدولة ما يجب أن تقوم به وإحالة الكثير من أدوارها للجيش المؤسسة الوطنية، باكورة مؤسسات الدولة الحديثة فى مصر. إن الحضور المادى للدولة بمؤسساتها مهم فى مرحلة التحول الديمقراطى شريطة أن يكون حضورا على مستوى التغيير ويصب فى صالح التقدم. يواكب ذلك محاولات تقويض أركان الدولة سواء بوعى أو بغير وعى وهو ما ينبغى أن نلتفت إليه وأن هناك فرقا فى أن نغير النظام السياسى ومن أن نؤذى الدولة بمؤسساتها أخذا فى الاعتبار ضرورة تجديد الدولة لنفسها ولمؤسساتها بما يتناسب وطبيعة المرحلة الجديدة.

من جانب آخر، لم تزل الكتلة المواطنية تشعر أن مصر الجديدة التى تحرك من أجل تحقيقها لا تزال بعيدة المنال. فالمشاكل هى هى بل فى ازدياد وأجهزة الدولة على قديمها فاقدة القدرة على الابتكار والكتلة المواطنية التزمت الجانب الآخر فى مواجهة الدولة فى غيبة نظام سياسى يتحمل المسئولية ويكون قابلا للحساب. ونلفت النظر إلى أن الكتلة المواطنية على الرغم من التفاوت فيما بينها من حيث الحيوية السياسية والوعى المدنى إلا أنها توافقت فيما بينها على إعلان العصيان. فالمستقبل غامض، ولم يتم استثمار الزخم الثورى الاستثمار الامثل، وهو ما تجلى فى ضعف الاستجابة للانتظام فى الكيانات السياسية والمدنية. والأهم هو عدم الالتفات إلى النموذج التنموى الذى نريده وهو من أهم الملفات التى لم يتح لها أن تناقش لا من قبل الرؤى الدينية أو المدنية كما لو كان هناك اتفاق ضمنى على ذلك. هذا الملف هو فى ظنى المفتاح القادر على خلخلة القائم واستعادة صحيح الأمور. النموذج التنموى الذى أظن العناية به سوف تفتح آفاقا للحوار حول بنية المجتمع وشرائحه الاجتماعية وموازين القوى بين طبقاته وعلاقات القوة السائدة والتى لم نحل شفرتها بعد. كما تحررنا من اختزال الأمور فى البعد الثقافى دون سواه والقراءة الدينية للسياق المجتمعى.

وفى هذه الأثناء تصاعدت المسألتين النوبية والبدوية، وتزايد ما سميته العراك الدينى المدنى، وتمحور البعض حول رؤيته باعتبارها الحق المطلق وبغيرها لن تكون لمصر قائمة غير مدركين أن مصر لا تبنى إلا بالشراكة الوطنية وبتعدديتها وفى ضوء التراكم التاريخى وليس بالبدء من جديد.

فى المحصلة وجدنا «الوطن فى خطر» بحسب عبارة لأحد الثوريين الأوروبيين بسبب عدم القدرة على بناء جسور للتواصل الديمقراطى بين الدولة والمواطنين: نخبة وعامة من جهة، وبين المواطنين أنفسهم من جهة أخرى. والنتيجة هو سيادة الحالة الصراعية فى علاقة الدولة بالمواطن وفى علاقة المواطن بشريكه المواطن وهو ما يجب التكافل المجتمعى على تجنبه مهما كان الثمن.

 
 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern