الجمهورية الجديدة ... الأسس والمبادئ

أسست 25 يناير من خلال «جماهير التحرير» لثلاثة أسس، الأساس الأول استعادة «الجمهورية المعتدلة»، فقبل 25 يناير انحرفت الجمهورية عن جوهرها وعن مسارها الطبيعى، حيث انحرفت نحو التوريث متناقضة مع جوهرها من جهة، وانحازت إلى الأقلية الثروية ــ بالمطلق ــ من خلال سياسات الليبرالة الجديدة من جهة أخرى. الأساس الثانى هو التمسك بالدولة الحديثة وتجديدها مما أصابها من تفكك وترهل لمؤسساتها، حيث كان حضور المصريين إلى التحرير على اختلافهم دلالة على خروجهم من دوائر انتمائهم الأولية إلى الإطار الجامع تحت مظلة دولة حديثة قادرة على التجدد وعلى أن تظلل عليهم جميعا دون تمييز. أما الأساس الثالث هو تراجع الحوارات الحدية والخصومات التى كنا مستغرقين فيها وكانت تحول أنظارنا عن الأعداء الحقيقيين لنا، لصالح مصالحة تاريخية توحد مواقفنا نحو ما يعوق تقدم هذا البلد.

أسس ثلاثة، إذن، أسست لها 25 يناير، ألا تستحق أن ندونها فى وثيقة إطارية يتم التوافق عليها فى ظل زخم ثورى. خاصة أن كل أساس من هذه الأسس يمكن أن نستخرج منه العديد من المبادئ تشكل فى المحصلة مبادئ الجمهورية الجديدة من وحى التحرير والجديرة بأن تكون بوصلة مستقبلية لوطننا.. ومن هذه المبادئ نشير إلى الآتى..

المبدأ الأول: «إرادة المواطنة»

نجح المواطنون فى 25 يناير أن يجعلوا من المواطنة حقيقة. المواطنة التى دوما نصفها بأنها حركة المواطنين على أرض الواقع من أجل اكتساب منظومة الحقوق وتحقيق المساواة.. إلخ. فلقد استطاعوا من خلال الحركة الميدانية المواطنية أن يسقطوا الحاكم، وأن يصبح فى مصر «حاكم سابق» للمرة الأولى فى التاريخ. حاكم لا يسقطه البابا العالى أو يغتال أو… وإنما يسقط من خلال الإرادة الشعبية. هكذا بات مبدأ المواطنة مفعلا من خلال «إرادة» المواطنين. بلغة أخرى كنا قبل 25 يناير وعلى مدى سنوات نتحدث عن المواطنة «كمبدأ»، ولكننا بعد 25 يناير أصبحت المواطنة واقعا حيا من خلال الممارسة الفعلية وتبلور «إرادة» شعبية حولتها من مجرد مبدأ نظرى نتحدث عنه ونشجع عليه إلى إرادة حية قابلة للتحقق.

المحصلة أن إرادة المواطنة تعنى إعادة صياغة العلاقة بين الحاكم والمواطن / المواطنين وفق إرادة المواطنة.

هذه الإرادة لابد أن تستجيب لها الصياغة الدستورية من خلال مبادئ جديدة حية غير نمطية. فتعبير «إرادة المواطنة» نفسه أظنه يحتاج إلى تعميق دستورى وسياسى يتجاوز الحديث المتكرر عن الحقوق والواجبات ويضمن انخراط المواطنين فى العملية السياسية والمدنية وفق بنية مشتركة للفعل السياسى توضع بالتوافق تحول دون تعسف أى طرف ضد طرف آخر. كذلك لابد من توافر مبادئ تفصيلية حول إطلاق حرية حركة المواطنين فى المجال العام: السياسى والمدنى وحماية المجالين الشخصى والخاص من الانتهاكات. والتاكيد على تقييد سلطة الحاكم بما يضمن ألا تحاصر إرادة المواطنة.

والتأكيد على أن الحكم شأن من شئون المواطنين وليس حكرا على قلة. كذلك الثروة.. وهو ما ينقلنا إلى المبدأ الثانى..

المبدأ الثانى: كرامة الإنسان المصرى: «الحرية والعدالة»

عرفت مصر الحديثة الحرية السياسية والمدنية من خلال ثورة 1919، كما عرفت العدالة الاجتماعية فى الفترة الناصرية. وغاب كلاهما: الحرية والعدالة منذ السبعينيات مع تطبيق السياسات النيوليبرالية ووصلت مصر إلى ما وصلت إليه. بيد أن المواطنين فى التحرير أدركوا أن مصر لا يمكن أن تقلع وتنهض إلا بالأمرين معا: الحرية / العدالة. فهناك علاقة جدلية بين الأمرين. فالحديث عن الحرية / والديمقراطية لا يستقيم ما لم يقترن بالعدالة بمعناها الشامل. فرأسمال القلة يمكن أن يغتصب حقوق الكثرة، بداية من حق الترشح وعدم القدرة على الصرف على العملية الانتخابية وشراء الأصوات والهيمنة على البرلمان وانحيازه للقلة من خلال تشريعات تبيح الاحتكارات.. ويكفى أن نراجع الانتخابات البرلمانية منذ العام 2000، لندرك جريمة تهميش شرائح عديدة من السكان عن العملية السياسية بمراجعة نسب المشاركة السياسية. لذا فلا حديث عن ديمقراطية بغير عدالة شاملة. عدالة تضمن حضور الجميع لأنهم أصحاب مصلحة على تفاوتها.

ويشار هنا إلى أن بعض الباحثين المعتبرين الذين درسوا النماذج الديمقراطية فى ضوء العديد من الخبرات (ديفيد هيلد) يحذرون من أن هناك حزما قوية من العلاقات والتنظيمات الاقتصادية تستطيع تعطيل وتشويه العمليات والحصائل الديمقراطية. لذا ولمعالجة ذلك لابد من إعادة مفصلة الجماعات والروابط المفتاحية فى الاقتصاد مع مؤسسات سياسية بما يجعلها جزءا من العملية الديمقراطية. على الجانب الآخر لابد أن يتم تصالح تدريجى بين حرية البعض والبعض الآخر، البعض الذى قد يكون أغلبية فى لحظة وبين الأقلية، ولاحقا قد يتم تبادل المواقع بينهما.

إن إعادة العلاقة بين الحرية / الديمقراطية والعدالة الشاملة تعنى ضبط منظومة علاقات القوة بين الاقتصاد والسياسة. فلا يميل ميزان القوة نحو قلة ثروية بحكم الثروة وإنما يعتدل بعض الشىء بين المواطنين بغض النظر عمن من يملك ومن لا يملك.

إن هذا المبدأ يفتح لنا آفاقا عن النموذج التنموى للدولة التى نريد، خاصة أن الملاحظة الأولية تشير إلى أن لا توجد لدينا رغبة لتجاوز السياسات النيوليبرالية التى تقوم على اقتصاد السوق والخصخصة والتى تتناقض كليا مع الكرامة الإنسانية ببعديها الحر والعادل. وهنا نذكر بنموذجا أخذت به كل من الهند والبرازيل أشرنا له مرة، يعرف بدولة الرفاهة التنموية Developmental State.

المبدأ الثالث: «التمكين»

عكست إرادة المواطنة فى الواقع قدرة لدى المواطنين على أن يضعوا جدول أعمال مطالبهم. فمن خلال إرادة المواطنة «فطم» الناس من الوصاية التى تعرف أكثر ومن الثقافة الأبوية مكمن الأسرار ومصدر الأفعال.

فلقد تبين أنه يمكن للناس أن يتحرروا من أن يكونوا رعايا وأن يكونوا مرهونين لسلطة جماعاتهم الأولية البطريركية. تحرر ينقلهم من الأشكال ما قبل حديثة مثل العزوة والعشيرة والطائفة إلى مؤسسية حديثة تضمن هوية مدنية للدولة. وهو ما يعنى أن يترجم ــ نصوصيا وعمليا ــ إلى قدرة فعلية تمكن المواطنين للتشاور وللتنظيم وللمراجعة وللمحاسبة ولصنع القرار أو مقاومته لو كان جائرا. كذلك تأمين الفرص المتاحة لهم وفق نظام عادل يكافئ بين الجميع يحسن مهاراتهم ومواردهم وتيح لهم أن يكون لهم نصيب فى الثروة العامة للوطن.

يضمن هذا المبدأ ــ فى ضوء كثير من الخبرات ــ ألا يصبح الحراك الشعبى الثورى مجرد انتقال للسلطة من فريق من الساسة إلى آخر. كما يضمن التمكين أيضا تأمين التحرك الدائم ــ وفق إرادة المواطنة ــ ضد السلطة وسياساتها إذا ما أخلت بالكرامة الانسانية ببعديها: الحر والعادل.

المبدأ الرابع: المواطنة الثقافية / مصر المركب الحضارى

فى التحرير، انتقل الناس من «الخاص الضيق» إلى «العام الرحب»، بغير تناقض بين الخاص والعام من جهة، بل بإبراز الأفضل لدى كل طرف والتفاعل مع الأفضل لدى الآخر من اجل التغيير المطلوب. الكل وحدهم المعاناة بالرغم من أية اختلافات. انطلقت المواطنة، إذن، من الخبرة الحية لمكونات الجماعة الوطنية، الأمر الذى يعنى ضمنا نقل «الخصوصية الثقافية» من مجرد مقولات فلسفية إلى خبرة تتفاعل مع الواقع وتحدياته من أجل الإحداث الجماعى للتغيير. ترتب على ما سبق أن أصبحت «الخصوصية الثقافية» ديناميكية وأصبحت فى علاقتها بالمواطنة فى حالة جدلية مستمرة وممتدة متى كان الناس فى حالة حركة لتجاوز الواقع ولديهم القدرة على تفكيك ما من شأنه إعاقة المواطنة.

بلغة أخرى تجاوز كل مواطن خصوصيته لأن الهم الوطنى العام وحده مع الآخرين المختلفين معه مكون مركب ثقافي يعبر عن مصر كلها دون تمييز ومحقق المواطنة الثقافية كتعبير عن الهوية الحضارية العامة لمصر بغض النظر عن الأوزان النسبية لعناصر هذا المركب.

وبعد هذه بعض من مبادئ الجمهورية الجديدة التى عكستها ما أسست له 25 يناير.. أتمنى أن تحظى بنقاش يجد صداه فى نصوص غير نمطية تدرك التداخلات بين ما هو اقتصادى واجتماعى وثقافى وسياسى فى إطار وثيقة نرتضيها حاكمة لمستقبلنا ولتكن تحت اسم وثيقة 25 يناير.

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern