فى 25 يناير كان المصريون «معا» على قلب رجل واحد، دون تمييز، يطالبون بمصر جديدة تقوم على الحرية والعدالة الاجتماعية. مصر لكل المصريين وبكل المصريين، وليس لفئة أو مجموعة عائلات أو أقلية ثرية أو …
ومن الطبيعى أن أى حراك تغييرى يدعو لإقامة بناء جديد محل بناء قديم شابه الترهل والفساد، سوف يلقى مقاومة من الذين من مصلحتهم بقاء القديم على حاله، ومن هنا أشرنا فى مقالنا السابق إلى أن الحراك الثورى الشبابى الشعبى الذى نشهده ما هو إلا «موجة أولى» لابد من أن تعقبها موجات لتجاوز كل ما يمكن أن يعوق اكتمال البناء الجديد.
فى هذا السياق، يأتى حرق مقار أمن الدولة وبعدها أحداث التوتر الدينى التى شهدتها مصر فى الأسبوع الماضى لتصب فى اتجاه تعطيل فعل الحراك الثورى.. وهنا نقترب من المشهد ونطرح فكرة عملية للخروج من هذا المأزق؟
مشهد بائس
إذا انطلقنا من واقعة «أطفيح»، تشير القراءة المتأنية للوقائع ولأقوال الشهود إلى التداخل المركب بين الدينى والاجتماعى والجيلى والثقافى والقبلى. نقطة البدء الشائعات، أغلبها غير منطقى ولا يصدقه عقل، ورغم ذلك يسير البعض خلفها وتنطلق شرارة الأحداث بين التقاليد الريفية والدفاع عن العرض والثأر واختزال هوية الأفراد فى البعد الدينى دون سواه. فالشاب الذى أقام علاقة مع الفتاة فعل ذلك بسبب الانتماء الدينى، وهنا نجده قد فعل ذلك لأن هناك ــ حسبما روج ــ إلى تخطيط مؤسسى دينى قد حرضه على ذلك، وتتوالى القصص التى من ضمنها الأحجبة وصندوق السحر وخصلات الشعر..وهكذا. (نعتمد على تغطية «الشروق» الصحفية، من 9 إلى 11 مارس).
وفى هذا السياق نكتشف كيف أن العلاقات فى مستويات معينة: جيلية واجتماعية طبيعية، ولكن يبدو أنه مع الأجيال الأصغر، وفى مستويات اجتماعية دنيا نجد العلاقات ليست طبيعية، وكيف أن الانتماء الدينى لدى هؤلاء قد بات هو الانتماء الوحيد، ومن ثم فإن الخطأ الاجتماعى للأفراد فى المجال العام لابد من أن تدفع ثمنه المؤسسة الدينية. وعليه تحُرق الكنيسة والتى يقال إنه لا ترخيص لها وهو ما يفتح الحديث عن هذا الملف.
وبالتوازى مع كل ذلك نكتشف كيف أن القرية لا يوجد بها أنشطة اجتماعية وصحية ونجد الشباب فى هذه المساحة ــ وبمجرد من التحرر من الانتماء الدينى كانتماء وحيد ــ يتفق على ضرورة وجود هذه النشاطات المشتركة.
واقع الحال أن المشهد فى أطفيح يعكس فى واقع الأمر مدى بؤس السياق المجتمعى سياسيا وثقافيا وخدميا..
روح التحرير: التحرك المشترك
إن هذه النوعية من الوقائع أظن أنها تمثل تحديا حقيقيا لمصر الجديدة التى شهدنا ميلادا جديدا لها يوم 25 يناير، إن استمرار الزخم الثورى يتطلب منا سرعة التحرك ليس من على الأرضية التقليدية: الدينية والعرفية التى تقبل باستمرار أنماط العلاج ما قبل 25 يناير. فإن ما يعوق المواطنة من التحقق ــ وكما عرضنا فى كتابنا المواطنة والتغيير ــ ما أطلقت عليه: «مركب إعاقة المواطنة»، والذى يتكون من: جعل وحدة الانتماء السياسية هى الانتماء للجماعات الأولية على حساب الانتماء للجماعة الوطنية، يدعم ذلك اقتصاد ريعى، وسياسات النيوليبرالية التى تعزل الفرد عن الآخرين، وبيروقراطية مترهلة ــ منها الأمنية ــ مهمتها «تستيف» الملفات على حساب الحقوق أو لحساب السلطة..إلخ.
فى هذا الإطار يمكن أن نقول إن الشباب الذى اعتصم أمام ماسبيرو حاول أن يسلك سلوكا مختلفا مستلهما روح «التحرير»، حيث ذهب إلى ماسبيرو فى رفقة مسلمين، كذلك اتجه إلى الرأى العام وليس إلى الكنيسة رافعا أعلام مصر، كما أكد تمسكه بالوطن ولم يتجه إلى الهجرة كحل اتبعته جماعات أخرى فى المنطقة، كما لابد من الإشارة إلى حرص المسلمون على إظهار صحيح الدين فى الموقف من بناء الكنائس، إنها حالة جديدة تجسد روح «التحرير» التى أثبتت:
أن التحرك المشترك فى إطار المجال العام الجامع للمصريين «معا»، هو وحده القادر على كسر الحواجز من أجل جعل منظومة الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، حقيقة بالجهد المشترك.
بيد أنه من واجبنا التحذير أن هناك خيطا رفيعا بين هذا السلوك وبين محاولة البعض إعطاء الظهر للحالة الوطنية العامة والتى تأتى فى سياقها المطالب الخاصة، والتركيز على الدينى المحض وهو ما يعد تعطيلا لروح التحرير الجامعة.
«عبور» إلى «جغرافيا التوتر الدينى» و«تحريرها»
«عبور» آلية تسعى إلى أن تعتنى برصد بؤر التوتر فى مصر أو رسم «جغرافيا التوتر الدينى.. وتعمل على التنبيه المبكر مما ينتج عنها وتقديم الحلول الإستراتيجية والعملية للجهات المعنية». انطلاقا من أن تبعات التوترات الدينية فى هذا المرحلة الانتقالية الدقيقة التى تعيشها البلاد بعد 25 يناير سوف ستكون أشد وطأة وخطورة على المجتمع أمنيا وسياسيا واقتصاديا من أى قضية أخرى لأنها تشكل احد مقومات الأمن القومى المصرى.
وإدراك أن اعتماد الحل الأمنى كإستراتيجية وحيدة لعلاج أحداث الفتنة الطائفية فى الفترات السابقة، قد أدى إلى مزيد من التعقيدات والإشكاليات أكثر مما ساهم فى حلها حلاً جذريا شاملا، إن عدم مواجهة هذه الإشكاليات وتأجيلها وتسويف البت فى ملفاتها، كما أدت سياسة تقديم المسكنات بديلا عن الحلول الإستراتيجية الحاسمة ــ تارة بأن الظروف لا تسمح وتارة أخرى باستخدام فزاعة القوى الدينية المتشددة ــ إلى تزايد عدد المشاحنات الدينية فى السنوات الأخيرة، وتحول المشاكل ذات الطبيعة الاجتماعية إلى حوادث دينية عنيفة لمجرد أن أحد طرفيها مسلم والآخر مسيحى وإلى فقدان ثقة المواطن العادى فى مثل هذه الحلول.
«عبور»: أهدافها.. تشكيلها.. آلياتها
تهدف «عبور» إلى:
التنبيه المبكر عن بؤر التوتر الدينى فى المحافظات المختلفة، كذلك مظاهر التمييز الدينى فى المجال العام والتى قد تؤدى إلى توترات ومشاحنات، كذلك رصد التمييز فى الخطابات الإعلامية والثقافية والدينية والسياسية، والمناهج التعليمية، التى قد تسهم فى حدوث التوترات.
وضع البدائل والحلول العملية المناسبة لمواجهة التوترات التى قد تحدث وتحديد طبيعتها وتوصيفها بدقة من حيث التمييز بين الوقائع ذات الطبيعة الدينية والوقائع الاجتماعية.
وضع إستراتيجية طويلة الأمد فى المجالات الثقافية والتعليمية والإعلامية والقانونية.
تشكيل اللجنة:
تتكون هذه اللجنة من خمسة أعضاء ولا تزيد على عشرة، بحث تتوافر الخبرات التالية: القانونية والسياسية والمعرفية والاجتماعية والدينية، خبرات لديها باع فى هذا الملف.
آليات العمل:
– الاعتماد على شبكة جمعيات أهلية فى المحافظات المختلفة للرصد.
– نشطاء من الشباب لرصد التوترات.
– تخصيص خط ساخن لتلقى الشكاوى والاستغاثات وتحويلها لجهة الاختصاص مع التأكيد على دور اللجنة فى متابعة الشكوى.
– تدريب القيادات المحلية الطبيعية والشبابية لاحتواء الخلافات وفض النزاعات واعتماد الحوار المجتمعى كآلية تضمن التماسك المجتمعى.
– تفعيل وتنشيط المجالات المجتمعية العامة للعمل المشترك.
– تشكيل لجان لتقصى الحقائق وتقديم التقارير المطلوبة.
– عمل موقع الكترونى للتواصل ووضع الحقائق والمعلومات الأساسية حول الوقائع والأحداث.
مراجعة كل الجهود التى قطعت شوطا فى هذا المجال من مناهج تعليمية ومقترحات قوانين ومشروعات ثقافية من حيث التعريف بها أو استكمالها أو تنشيطها وإعدادها للعمل.
لا يسع المقام من عرض كل التفاصيل.. بيد أننى أثق فى أن «عبور» كمبادرة سوف تجد صدى رسميا وشعبيا.. وفى كل الأحوال سوف نبدأ بجعلها موضع التنفيذ..
«عبور» آلية «تحرير» من عزلة تجعلنا فى مواجهة بعضنا البعض إلى أن نكون «معا فى حركة مشتركة لمواجهة ما يتهددنا ومن ثم تتجدد رابطة المواطنة، ومن مجتمع الانتماءات الأولية إلى دولة الجماعة الوطنية، ومن مصر قديمة ومترهلة إلى مصر جديدة ناهضة وفاعلة، نعبر بها إلى بعضنا البعض. ونعبر «معا» إلى المستقبل الأفضل.