فى نهاية ديسمبر الماضى، كنت قد فرغت من مطالعة كتاب «الاقتصاد السياسى لمصر: دور علاقات القوة فى التنمية»، للأستاذة الدكتورة نادية رمسيس فرح أستاذة الاقتصاد بالجامعة الأمريكية بالقاهرة. ولأهمية الكتاب القصوى قررت أن أكتب عنه. وما أن هممت فى ذلك، وقعت الواقعة الأليمة المتمثلة فى تفجير كنيسة القديسين بالإسكندرية حيث احتلت الواقعة بؤرة الاهتمام.. وما أن شرعت فى الكتابة عن الكتاب مرة أخرى حتى حدث الحراك الشبابى الشعبى، فأجلنا الكتابة عن الكتاب.. خلال هذه الفترة كتبنا أربعة مقالات (حول حادث الكنيسة: «رسالة إلى الوطن» 3/1/2011، و«إنها الطبقة الخطيرة» 17/1/2011، وعن الحراك الشبابى الشعبى: «عن أحوالنا التى رفضتها مصر الشابة ــ 31/1/2011». و«مرحبا بالطبقة الوسطى 14/2/2011»، أشرنا فيه إلى الحضور المهم للطبقة الوسطى بمستوياتها فى هذا الحراك)، وجدنا كيف أن هناك خيطا ربط بين هذه المقالات بوعى أو غير وعى يحاول أن يفسر ما حصل فى إطار البنية الاقتصادية السياسية القائمة.
ووجدت كتاب الدكتورة نادية رمسيس يأتى فى وقته تماما يدعم أطروحاتنا ويعمقها بإلقاء الضوء حول ما جرى فى مصر من تحولات اقتصادية ـ سياسية.. الأمر الذى يعين فى فهم لماذا تتراوح مشاعرنا بين الفرح الغامر بما تم إنجازه والقلق الكبير عليه.. ذلك لأن ما جرى فى ظنى هو «موجة أولى» Wave One، إذا جاز التعبير من جهة، وأن تناقض المشاعر لا تفسير لها ما لم نقترب من البنية الاقتصادية ودراسة طبيعة علاقات القوة وتوزيعها فى بنية الدولة المصرية.. ووجدت الكتاب يقدم التفسير لذلك.
علاقات القوة بين الاقتصاد والسياسة فى مصر
تقوم المؤلفة بتتبع ما جرى فى مصر من تحولات اقتصادية وسياسية منذ تأسيس الدولة الحديثة فى مصر عام 1805 وإلى عام 2005. ومدخلها الرئيسى فى ذلك هو بحث علاقات القوة التى أدت إلى ذلك. أو ما هى القوة التى سادت وعلى حساب من، خلال المراحل التاريخية المتعاقبة على مدى مائتى سنة. وأخيرا ومن خلال التركيز على الفترة الممتدة من عام 1990 إلى عام 2005 يرصد الكتاب أى قوة كان لها الغلبة.
من البداية، تقول المؤلفة: لقد حلت نخب رجال الأعمال محل النخب البيروقراطية التى سادت الفترة 1956 ــ 1990 باعتبارها مصدر دعم حيوى ومهم للنظام الحاكم. فضلا عن استيلائها على مكان النخب السياسية التقليدية والقوات المسلحة. وأنه وللمرة الأولى منذ عام 1952 «تتخلى الحكومة عن كل دعاوى الشعبوية ويصير توزيع القوة مائلا بشدة نحو نخبة صغيرة جدا».
فى هذا السياق، نشير إلى أننا كنا قد لفتنا النظر إلى أهمية التقرير الصادر عن مكتب البنك الدولى فى منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (وتقع مصر والجزائر فى نطاقه) تقرير 2009 ــ والذى حذر فيه من الامتيازات التى قد تعطى «للبعض» فى مجال الاستثمار على حساب الكثيرين، وتغليب المصالح الضيقة على المصالح العامة.. فالتقرير الذى يقع فى 278 صفحة من القطع الكبير، يحذر من احتكار وهيمنة قلة على الفرص الاستثمارية دون غيرها. يقول هذا البنك الدولى الأكثر هو مطالبته بضرورة تغيير هذا الوضع ولذا جاء عنوان التقرير من الامتيازات Privilege إلى المنافسة حيث ينتقد الامتيازات التى تمنح لبعض المستثمرين دون غيرهم من جهة، ويعكس تنافسا غير عادل من جهة أخرى.. هذه القلة الثروية التى باتت النخبة المهيمنة على كل شىء عكست ما يلى:
ــ طبيعة التحالفات القائمة بين «الثروة/البيزنس والسلطة»، والتى يريد أصحابها أن تظل أبدية لا يمسها أحد.
ــ حصر عناصر النخبة العاملة فى الاستثمار فى شرائح بعينها دون غيرها، ما يجعل الاستثمار فى إطار نخبة مغلقة، وهنا مكمن الخطورة.. كيف؟
شبكة الامتيازات المغلقة
خلق التحول الحاسم من قبل الدولة فى دعم قوة نخُب رجال الأعمال الجديدة، إلى خلق ما يمكن تسميته بـ«شبكة المصالح الاستثمارية المغلقة». وفى الواقع فإن الدولة بانحيازها للقلة ومنحها امتيازات خاصة، فإنها تخل بتطبيق القانون من جهة المساواة المطلوبة وتوفير تكافؤ الفرص بين كل من يريد التصدى للعمل الاستثمارى. وعليه اقتصار ملكية الكعكة على البعض. لذا فليس صدفة أن يواكب ذلك التحول بحسب نادية رمسيس فرح بعض من التعديلات الدستورية التى تعكس تناقضا واضحا حيث تتيح مبدأ أن يترشح أكثر من منافس لمقعد رئيس الجمهورية مع وجود ضوابط معقدة تجعل التعديلات أقرب للتفصيل على أفراد بعينهم. وفى نفس الوقت تطلق من سلطات الرئيس. والنتيجة كما تقول فرح:
«دمج شرائح النخب فى جماعة متماسكة، وتحجيم المعارضة السياسية، وتخفيف الصراعات الطبقية تحت راية أيديولوجية جامعة، سواء كانت لأمة بالمعنى القومى أو الأمة الإسلامية».
أصبحت النخبة الجديدة محمية سياسيا بسلطة تقوم بالتخديم عليها من جانب، وبقوة مادية بوليسية. والنتيجة أن اكتسبت القلة الثروية قوة تمكنها من إكراه الآخرين ومن السماح للبعض دون غيرهم من إمكانية الوصول إلى موارد البلاد الاقتصادية والفوائد التى تتيحها، وبقاء الأغلبية بعيدة عن ذلك.
أدى الاختلال فى منظومة القوة إلى هيمنة القلة على مقدرات البلاد واستبعاد الأغلبية وتهميشها من طبقة وسطى ودنيا وضمنها من وصفناهم بالخطيرة. ولم تكن المظاهرات التى بادر بها الأقباط من حزام المدينة أولا، والمظاهرات الشبابية والشعبية ثانيا (التى قادتها الطليعة الشبابية الرقمية ولحقت بها الشريحتان المتوسطة والدنيا من الطبقة الوسطى بداية من 25 يناير وإلى الآن) إلا ما يلى:
تفكيك شبكة الامتيازات المغلقة
وكسر الغطاء الحامى لها من سلطة سياسية وقوة مادية، وإتاحة الفرصة لشرائح اجتماعية أن تعبر عن نفسها سياسيا ولأخرى أن تطالب باستعادة العدالة وتكافؤ الفرص بين المواطنين، أو بلغة أخرى، إحداث خلل فى منظومة علاقات القوة التى ظنت النخبة الجديدة بأنها قد سادت وباتت أمرا واقعا لا يمكن تغييره.. والسؤال ما الحصيلة؟
حصيلة الموجة الأولى من الحراك ومستقبلها
لا شك فى أن الموجة الأولى من الحراك قد نجحت فى «خلخلة» منظومة القوة القائمة، وهو ما يتجسد فى إنهاء مشروعى التمديد والتوريث تحديدا اللذين يمثلان فى جوهرهما ضمان حماية القلة الثروية وسياستها النيوليبرالية. كذلك نجحت الموجة الأولى فى تجديد حيوية البناء الاجتماعى وتفعيل قوته النسبية وقدرته التفاوضية. ويبقى السؤال ما هو مستقبل هذا الحراك؟
واقع الحال فإن مجرد طرح هذا السؤال يعنى أن زخم الحراك الشبابى الشعبى قد تأثر إيقاعه إلى حد ما لسبب أو لآخر وهو ما تعكسه المشاعر المتناقضة التى أشرنا لها فى المقدمة. وهو ما دفعنا إلى استخدام تعبير «الموجة الأولى»، أى أن مستقبل الحراك بات متوقفا على مدى انطلاق موجة ثانية قد تكون أخيرة لحسم موازين القوة أو أن هذا الحسم سوف يحتاج موجات أخرى.
وفى نفس الوقت، لابد من التأكيد وفى ضوء خبرات الآخرين وتجارب التحول السياسى على أنه بمقدار ما كانت موجات الحراك ذات وعى صائب فى إدراك مصالحها وتعديل علاقات القوة بما يضمن الشراكة بين الجميع على قاعدة المساواة بقدر ما كان التغيير فاعلا وجذريا على المستويات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية. وعليه يمتنع الخوف من إعادة إنتاج نفس علاقات القوة القديمة مرة أخرى.. ويكون للفرح معناه الأكيد.