من التوازن الحرج إلى التجاور القلق

عالج أستاذنا المفكر والمثقف الموسوعى الكبير لويس عوض ومنذ وقت مبكر قضية «إمكانيات الحوار فى المجتمع المصرى».. وذلك فى كتابه «لمصر والحرية.. مواقف سياسية» (1977).. حيث حاول أن يشرح لماذا تعثر الحوار فى مجتمعنا المصرى منذ الخمسينيات وكاد يختفى.. وفى هذا المقام طرح فكرة مهمة أوجزها فى كلمتين هما «التوازن الحرج».. ما الذى كان يقصده بذلك وهل لم تزل هذه الفكرة قائمة خاصة أن حالة الحوار لم تزل متعثرة..أم انتقلنا إلى مرحلة أخرى؟

تأجيل الإجابة عن الأسئلة الحقيقية

يقول لويس عوض إن اختفاء الحوار بالقطع ظاهرة تتميز بها كل الثورات لا الثورة المصرية وحدها. فالثورات فى العادة جامحة ومتعصبة وتنظر إلى الأمور من زاوية واحدة، من زاوية ما جاءت لتنادى به والذى تراه جديرا بالتحقق ولو قسرا فى بعض الأحيان.. فى هذا السياق يتعثر الحوار فليس له مساحة فى اللحظات الثورية.. ذلك لأن الحوار، شأنه شأن الديالكتيك، منهج فى الحياة وبوصفه منهجا فى الحياة، فهو لابد أن يتبع نظاما وأن يقوم له وجود مؤسس يضمن التأمل والتخاطب والتسامح..

بيد أن وهنا الكلام للويس عوض الأديان الكبرى والثورات المؤثرة فى تاريخ الإنسانية، كالمسيحية والإسلام والثورة الفرنسية والثورة الروسية، قامت لتغير أفكار الناس ومعتقداتهم وقيمهم الأساسية، ولتغير أسلوبهم فى الحياة ولذلك فإن تطرفها مغتفر بسبب عظمة رؤيتها.. أما الثورة المصرية فقد اختارت لأسباب عملية أن تترك بدون إجابة جميع المسائل التى كانت تمزق المجتمع المصرى.»، فعلى الرغم من الانحياز الاجتماعى لشرائح كانت مستبعدة من الجسم الاجتماعى المصرى، إلا أن غياب الحوار فى حينه بالرغم من عظمة المهام الكبرى قد أجل حسم الكثير من القضايا التى كان مصيرها أنها ظلت معلقة بغير إجابة.. فباتت تنتقل من مرحلة إلى أخرى.

فعلى سبيل المثال، «تركت معلقا بدون إجابة، ذلك الموضوع التقليدى، موضوع صراع القدماء والمحدثين بأن تركت القديم والجديد يعيشان ويتعايشان».. وكان هذا التعايش محكوما بما أطلق عليه لويس عوض:
«التوازن الحرج»، فما الذى كان يقصده بذلك؟.

التوازن الحرج: الأمر ونقيضه وضبطهما
وتأميم الحوار

«التوازن الحرج»؛ هو ما عنيت به الثورة، وهو ما قام على الاعتماد على القديم لاستحداث الجديد، خشية أن يكون الجديد أكثر جدة مما سيسوغ لها. كذلك تركت الثورة المصرية معلقا بدون إجابة السؤال عن طبيعة الدولة هل هى دينية أم مدنية.. أو الأساس الذى تقوم عليه الدولة المصرية.. كذلك سؤال الهوية.. وسؤال الخيار السياسى/الاقتصادى للدولة.. وهكذا..

فعلى سبيل المثال والتحديد، لقد قبلت ثورة 1952، من جميع الوجوه وبجميع المعانى، وبحسب لويس عوض، «بلا تحفظ وفى غير إبهام»، الفكرة التقليدية والتطبيق التقليدى لنظرية الدولة فى مصر منذ محمد على بوصفها قائمة على دعائم مدنية. فإنها بالرغم من ذلك سمحت للفكر الثيوقراطى/ الدينى أن يتغلغل فى عقول الملايين من المواطنين بإتاحة المنابر الحرة لذلك النمط من واعظ القرية المتخلف من العصور الوسطى، وبنشر التعاليم البيوريتانية من خلال برامج التعليم ومن خلال أجهزة الإعلام الجماهيرى».. أى دولة حديثة من حيث الهياكل والمؤسسات والبنى وخطاب دينى نقيض.
إذن، ولأسباب معقدة ليس مجال ذكرها هنا كانت النتيجة أن امتنع حدوث حوار جدى حول وجود الأمر ونقيضه أى تم تأميم الحوار…

صفوة القول، تم السماح بالأمر ونقيضه.. فعلى الرغم من احتياج الدولة الحديثة إلى قيم روحية تتناسب وحداثتها وإلى اجتهادات تواكب مسيرتها الحداثية فإن ذلك لم يحدث.. فلقد سمحت الثورة لكل هذه الأفكار المتناقضة بأن تتعايش تعايشا سلميا، ومضت الثورة بحسب لويس عوض «تشق طريقها بمنهج الصواب والخطأ، رافضة أن تلتزم بنظرية محددة.

فبدت أنها تطبق نوعا من الحياد الإيجابى على كل هذه النظريات. وبالمثل سمحت الثورة لكل هذه النظريات المتضاربة أن تعيش بشرط ألا تحاول أن تجسد نفسها فى سياسات وبرامج تطبيقية»..

بعبارة أخرى احتملت هذه النظريات فى سماحة ما بقيت نظريات: الماركسية تم قبولها من خلال دور تبشيرى عن طريق مجلة الطليعة (بحسب محمد سيد أحمد) ولكن ليس أكثر من ذلك.. ولم يكن يسمح بالاستقطاب ولم يكن التجمع الأيديولوجى موضع رضا، وقد حلت صيغة الاتحاد القومى أولا ثم الاتحاد الاشتراكى ثانيا، بوصفه تحالفا بين الطبقات، مشكلة الصراع الطبقى والتناحر الحزبى.. وتم رفض مبدأ قيام الاتحاد القومى أو الاتحاد الاشتراكى بوظيفة الحزب فى دولة تقوم على مبدأ الحزب الواحد قد جعل التنظيم السياسى أيضا عاجزا أمام الدولة.

حوار الفرد والزعيم

ساهم ما سبق فى تقليل إمكانية الحوار فى المجتمع المصرى.. فالحوار كان بداية للتشاتم.. والتشاتم هو بداية الحرب الداخلية والفرقة وهو ما لا تسمح به الثورة.. لقد كان لكل مواطن الحق فى أن يعبر عن نفسه بالمونولوج الصغير المتصل بشخصه، وأن يعرب عن معتقداته وعن شكواه، وعن احتياجاته داخل الإطار العام للأشياء وكانت القيادة الملهمة تصغى باهتمام إلى صوت الشعب وهكذا بات الحوار حوارا فرديا بين الفرد والزعيم، تتحول بموجبه إرادة الشعب لتكون مجموع إرادات الأفراد فكل فرد يقف وحده مع الدولة أو عليها.
الصيغة إذن كانت: امتناع الحوار المجتمعى الجدلى بين الاتجاهات والتيارات السياسية والفكرية المختلفة.. فبات الحوار هو حوارا فرديا بين الفرد والحاكم.. فى ظل بقاء الأمر ونقيضه.. كل ذلك فى إطار «توازن» يديره طرف ثالث هو الدولة والزعيم الكاريزما.. ولكنه توازن حرج يؤدى إلى ارتباكات كثيرة متى اختفى الذى يضبط/الآلية التى تضبط هذا التوازن.. ويبقى الإيجابى هو حضور الأفراد فى المجال العام ثقة بالثورة وبالزعيم اختلف من اختلف واتفق من اتفق معه بيد أنه مع التحولات التى جرت فى مجتمعنا فإن التوازن الحرج تحول فى تصورنا إلى:
«تجاور قلق»

التجاور القلق والحوار المتوتر بين جماعات أولية لا مواطنين مع التحول إلى اقتصاد السوق والأخذ بالسياسات النيوليبرالية.. غاب الطرف الثالث الذى كان يضبط التوازن الحرج.. فبالرغم من غياب الحوار كان الأفراد حاضرين فى المجال العام فى ظل مشروع جامع.. وعندما يغيب الطرف الثالث الضابط للإيقاع نجد الأفراد يعودون إلى المجالات الخاصة/الانتماءات الأولية.. وتصبح هذه الجماعات متجاورة فيما بينها تفتقد ما يجمعها.. تجاور يعكس قلقا وجوديا قابلا للانفجار فى أى وقت، بيد أن الطرف الثالث يتدخل عند الاحتقان الشديد وهو أمر لا يكفى.

وتعكس الحالة الحوارية التى نشهدها فى مصر المحروسة الآن هذه الحالة القلقة.. فالمتابع لأى حوار يتم تداوله سوف يجد كيف يتسم الحوار بالاقتتال وسوء استخدام المفردات والتطاول.. واستخدام السلطة دينية كانت أو مدنية فى قمع المختلفين.. والغياب التام لكل من المعرفة و العلم والاعتراف بهما كمحددات للحوار.. فإلحاح المصلحة السياسية هو ما يحدد الحجج الحوارية حتى لو كان على حساب العلم والحقيقة التاريخية..

لذا ليس غريبا أن نشهد فى خلفية أية حوارات بزوغ الأسئلة التى نتجنب الإجابة عنها وخاصة أنها تحتاج إلى حوار عقلانى وموضوعى مجرد من السياسة ومتحرر منها مثل أسئلة الهوية، وطبيعة الدولة،..إلخ.
وهو أمر لن يحدث ما لم يمارس كل طرف منا أولا نقدا ذاتيا يؤهلنا إلى تجاوز التوازن الحرج حيث الحوار محكوم بتعايش التناقضات فى ظل طرف ضابط.. كما يدفعنا إلى رفض التجاور القلق حيث الحوار ينطلق من خنادق الانتماءات الأولية بغير ضابط..إلى حوار جدلى بين مواطنين ينهض بالوطن كإطار جامع لنا جميعا.

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern