دون الدخول فى تفاصيل قضية بعينها، حين يستعيد الخطاب الدينى المسيحى مفاهيم أهل الذمة التى تجاوزها الفكر الإسلامى الحديث، ومرجعية الدولة العثمانية والخط الهمايونى من جهة، وفى المقابل ترتفع أصوات إسلامية تعيد طرح التعامل مع الأقباط كأهل ذمة أو ملة وما يترتب على ذلك من إعادة النقاش حول المسائل الخاصة بالولاية العامة لغير المسلمين والتى من المفترض أنها قد حسمت فقهيا من خلال اجتهادات معتبرة من جهة أخرى.. فإن الأمر يحتاج إلى تأمل ذلك وفهم دلالته وإدراك آثاره وما سيترتب عليه.. خاصة أن هذه الاستعدادات والاستدعاءات تعود بنا إلى حالة ما قبل الدولة الحديثة وفى القلب منها «المواطنة».. والسؤال كيف وصلنا إلى هذا الوضع.. وقبل ذلك ماذا عن الدولة الحديثة ذاتها؟
هل الدولة الحديثة دولة «مُتخيلة»؟
تدفعنا الحالة الراهنة لأن نسأل هل الدولة الحديثة فى مصر دولة «مُتخيلة»؟..(إذا ما استعرنا تعبير بينيدكت أندرسون مؤلف المرجع المهم «الجماعات المتُخيلة»).. واقع الأمر أن التاريخ يقول لنا إن مصر بدأت مع تولى محمد على الحكم عام 1805، مرحلة تاريخية جديدة، باتفاق الباحثين على اختلافهم.. فبحسب أستاذنا وليم سليمان قلادة؛ استطاع محمد على أن «يحدث تغييرا خطيرا فى مؤسسة الحكم».. وبحسب أستاذنا طارق البشرى» أن من يطالع التاريخ المصرى ليكتشف فى وضوح أن ثمة تلازما وشيجيا بين بداية تكوين الجماعة الوطنية المصرية فى العصر الحديث وبين بناء الدولة الحديثة على عهد محمد على.. بدأ من خلالها ــ بحسب أحمد صادق سعد ــ فى «تذويب الأشكال الخاصة للتنظيمات الدينية الاجتماعية الذمية (الملية) فى المواطنة العامة..».
هكذا سارت المسيرة التاريخية المصرية فى اتجاه نقل أى مسائل دينية إلى المجال العام المدنى وأن تعمل الجدلية المجتمعية، على إيجاد الحلول لها.. وهو ما أشرنا له تفصيلا فى مقال لنا بـ«الشروق» (15فبراير الماضى) كيف أن السجال الذى حدث فى مطلع القرن العشرين من خلال المؤتمرين القبطى والمصرى (الإسلامى) قد دارا فى سياق مدنى.
إذن الدولة الحديثة ليست دولة «مُتخيلة» فما الذى جرى؟
الصيغة العثمانية
واقع الحال أنه ولاعتبارات تتعلق بالتطور المجتمعى بأبعاده المتعددة وجدنا تراجعا عن بعض ما أنجزته الدولة الحديثة.. واستسهالا فى التعاطى مع الكثير من الإشكاليات باللجوء إلى ممارسات وآليات تتناقض مع الدولة الحديثة..
فبعد أن نجحت الدولة الحديثة مطلع القرن العشرين ــ بدرجة أو بأخرى ــ أن تحدث التوازن فى الأدوار بين النخبتين الدينية والمدنية على المستويين الإسلامى والمسيحى، وأن تحقق المصالحة التاريخية بين الدينى والمدنى وتجلى ذلك فى مجال عام مدنى الطابع بغير خصومة مع الدين، وفى نظام سياسى مدنى لا دينى.. كذلك رؤية المشاكل القبطية ــ تجاوزا ــ من خلال مشاكل الشعب كله، أو بحسب نجيب محفوظ فى السكرية: «..مشكلة الأقباط.. هى مشكلة الشعب، إذا اضطهد اضطهدنا وإذا تحرر تحررنا…»..
ولكن لم تستطع ثورة يوليو بالرغم من مشروعها الاجتماعى الذى فتح أفقا لشرائح اجتماعية جديدة من كل المصريين ليكون لها نصيب من العائد العام للبلاد، أن تستمر فيما تم تأسيسه، ذلك لأنها لم تعط نفس العناية للبعد السياسى المدنى حيث قامت بتأميمه والتعامل مع فئات المجتمع من خلال ممثل لها.. العمال من خلال اتحاد عام للعمال..والتعامل مع الأقباط الكتلة متماثلة العناصر/الجماعة السياسية (من خلال غلق الدوائر 1957 ثم استحداث مبدأ دستورى يتعلق بالتعيين ــ فى دستور 1964المؤقت ثم دستور 1971)..
وفى مرحلة لاحقة تم التعامل مع الأقباط كجماعة دينية يتم التعامل معهم عبر الكيان الدينى.. والمحصلة رؤية الأقباط ككتلة متماثلة العناصر وكأن الدولة تستعيد الصيغة العثمانية فى رؤيتها للأقباط «كمّلة».. ومع موجات التوتر الدينى المتصاعدة منذ مطلع السبعينيات بدأت فى الظهور المشكلات الخاصة للأقباط.. وهنا يمكن أن نرصد ثلاث مقاربات تتعامل مع المسألة الدينية.
«المواطنة» فى مواجهة «اصطناع الأقلية» و«اختراع الملة»
المقاربة الأولى هى مقاربة المواطنة؛ حيث تضع المسألة الدينية فى السياق الوطنى الجامع كما تطرح الشأن القبطى من منظور المواطنة فالأقباط مواطنون فى المقام الأول وأعضاء فى الجماعة الوطنية المصرية لا يشكلون «جماعة مستقلة» أو «كتلة مغلقة» وذلك بسبب أنهم غير متماثلين من حيث الانتماء الاجتماعى المصرى والسياسى، ولا يربط بينهم سوى الانتماء إلى مصر من جانب، والانتماء الدينى من جانب آخر، وبين هذين الانتماءين تفترق المصالح والتحيزات والرؤى. كما أن المواطنة التى هى تعبير عن حركة المواطن على أرض الوطن تتجاوز مفاهيم الطائفة والملة والذمة والأقلية، اتساقا مع الدولة الحديثة.
وهذه المقاربة لا تنفى وجود مشكلات قبطية ولكنها تميز بين الدينى منها مثل: بناء الكنائس والأوقاف.. والمدنى منها الذى يواجه المواطن المسيحى فى المجال العام بسبب دينه، حيث يتسق هذا التصنيف مع الدولة الحديثة ومن ثم يضطلع كل طرف بدوره.. فالكنيسة مع الدولة تحل ما يتعلق بقضية بناء الكنائس.. والمواطن المصرى المسيحى يدافع عن مبدأ حرية العقيدة مع شركائه من المواطنين كأحد الحقوق المدنية التى كفلها الدستور فى إطار المجال العام.. ولقد طرح أنصار هذه المقاربة كثير مما يتعلق بالمسألة الدينية بشكل عام وما يتعلق بالشأن القبطى منذ وقت مبكر إلى أن جاءت التسعينيات وانفتح المجال لمقاربتين أخرتين هما:
«اصطناع» الأقلية،
«اختراع الملة»،
«اصطناع» الأقلية، وهو المصطلح الذى صاغه المفكر الراحل محمد السيد سعيد فى عام 1994، وهى العملية التى بدأت عندما تعثر حل الإشكاليات الخاصة بالأقباط على مدى زمنى طويل فما أن جاءت الدعوة لمؤتمر الأقليات إلا وتمسك البعض بمناقشة المشاكل من على هذه الأرضية.. وتستهدف هذه العملية بلورة رؤية للعالم وللذات تمزج بين المسيحية والسياسة وتفترض أن الأقباط كتلة واحدة متماثلة العناصر وأنهم جماعة مستقلة فى مواجهة أغلبية دينية.
أما «اختراع الملة» فهى العملية التى تؤسس لجماعة يربط الدين فيما بينها.. لها نظرة للذات وللعالم «دينية» الطابع ــ وتكون حركتها فى حالة تواز مع باقى التكوينات فى المجتمع وهو ما يمثل تجليا للنموذج العثمانى الذى يتكون من سلطة ونشاط اقتصادى وبشر ينتظمون فى أشكال أولية للتنظيم متجاورة مثل: الطوائف والعائلات الريفية والعشائر أو نموذج «ولى النعمة/التابع».
ومما يسهم فى إتمام الاختراع أيضا، أن هناك بعض الممارسات السلطوية التى تتناقض مع طبيعة الدولة الحديثة، حيث تقبل السلطة بالأخذ بالقوانين والآليات العرفية بالمنطق العثمانى فى الاستجابة لمطالب كل طائفة عن طريق وسيط يمثلها أمامها، كما أن المجال العام الذى من المفترض أن يكون مجالا جامعا للمواطنين لم يعد كذلك.. فكل ملة بدأت تخلق مجالها الذاتى.
وهو ما يمثل فى المحصلة تناقضا جوهريا بل وجوديا للدولة الحديثة.. وعليه يعود كل طرف للتشبث لما قد يراه حاميا له حتى لو كان ينتمى لما قبل الدولة الحديثة أو ما يناقض المواطنة انطلاقا من أن الملة التى فى اليد أو الجماعة الدينية أقلية كانت أو أغلبية أفضل من المواطنة التى تحتاج لنضالنا المشترك من أجل تدعيم مقومات الدولة الحديثة.