أمريكا والشرق الأوسط.. موقف تقليدى وغير مشجع

يثير الموقف الأمريكى ــ الملتبس ــ من الغارة الإجرامية على السفينة «الحرية»، الكثير من التساؤلات… البعض يفسره أنه متسق مع الموقف الأمريكى التاريخى من قضية الصراع العربى الإسرائيلى ومن منطقة الشرق الأوسط… والبعض الآخر يقول إن هناك تغيرات فى السياسة الخارجية الأمريكية تجاه المنطقة لم تزل قيد التشكيل…

ويمكن اعتبار كل من التفسيرين فى مقدمة المقال صحيحين «نسبيا»… فالموقف من الشرق الأوسط لم يزل كما هو… ولكن هناك إدارة جديدة تحاول الفكاك بعض الشىء من عبء التاريخ… ووثيقة جديد للأمن القومى الأمريكى صدرت قبل أيام تحاول التملص من إستراتيجيتى بوش الصداميتين… كل هذا يعكس الموقف الأمريكى الملتبس…كيف؟…

إطلالة تاريخية على السياسة الخارجية الأمريكية
يدرك الباحث فى كيفية تبلور السياسة الخارجية الأمريكية منذ منتصف القرن التاسع عشر وإلى الآن، أن السياسة الخارجية الأمريكية «لا تصنعها الأمة ككل وإنما تصنعها حكومتها»… والحكومة الحقيقية فى الولايات المتحدة الأمريكية هى تحالف «المجمع الصناعى العسكرى التكنولوجى»: الصانع الأول للقوة والدافع نحو التوسع المستمر والمحدد لمصالحها القومية العليا… وهو ما درسناه تفصيلا فى كتابنا «الإمبراطورية الأمريكية: ثلاثية الثروة والدين والقوة» (2003)… وأطلقنا على ذلك «إستراتيجية التوسع من الداخل إلى الخارج»؛ أو الميل إلى الخروج لمناطق خارج حدود أمريكا والسيطرة عليها سواء بالوجود الفيزيقى أو السيطرة العامة عليها بصورة أو أخرى..

أى أن السياسة الخارجية الأمريكية تشكلت، تاريخيا، استجابة لأمرين هما: الأول؛ القوة الأمريكية المتنامية باطراد، الثانى؛ المصالح التوسعية الأمريكية وفق ما تفرضه مصالحها..

وتؤكد القراءة التاريخية للمسيرة التاريخية للسياسة الخارجية الأمريكية على مر العهود الرئاسية المتعاقبة مما أشرنا إليه…فأحيانا يذهب البعض كما فى حالة تيودور روزفلت إلى استخدام القوة فهو صاحب سياسة العصا الغليظة Big Stick Policy ، وهى السياسة التى بررت حق الولايات المتحدة الأمريكية فى ممارسة دور الشرطى فى أمريكا اللاتينية وما يترتب على ذلك من مراقبة سلوكيات شعوبها، والتدخل بقواتها مباشرة لقمع أى تمرد أو إخلال بالنظام، أو بدعم أنظمة الحكم العسكرية. بعد روزفلت، جاء وودرو ويلسون ليطرح رؤية أخلاقية للسياسة الخارجية الأمريكية، لا تختلف فى مضمونها عن سياسة روزفلت من حيث إمكانية استخدام القوة، لذا ليس غريبا أن ويلسون الأخلاقى تتحقق رؤيته لهذه السياسة من خلال قبول مشاركة أمريكا فى الحرب العالمية الأولى.

الشرق الأوسط فى وثائق الأمن القومى الأمريكى
فى هذا الإطار تحددت رؤية أمريكا للشرق الأوسط… حيث بدأ اهتمام أمريكا بمنطقتنا بعد استنزاف قدر كبير من احتياطات النفط الأمريكى أثناء الحرب العالمية الأولى، الأمر الذى دفعها إلى طرح دعوة عُرفت آنذاك «بسياسة الباب المفتوح»، التى بموجبها يمكن تحقيق نوع من تكافؤ الفرص الاستثمارية أمام الدول الرأسمالية عن طريق تقسيم الأسواق العالمية لضمان تصريف المنتجات والحصول على المواد الخام، لإتاحة القدر نفسه من المشاركة أمام المشروعات الأمريكية فى عمليات التنقيب عن البترول وإنتاجه وتسويقه..

وبعد الحرب العالمية الثانية، بدأت أمريكا تضطلع بممارسة مسئولياتها كدولة قطبية ذات مصالح كونية فى ظل الحرب الباردة بين أمريكا والاتحاد السوفييتى، وعليه دأبت على إصدار وثيقة دورية عرفت باسم»إستراتيجية الأمن القومى»، مع مطلع كل دورة رئاسية جديدة تحدد رؤيتها الإستراتيجية الكونية… ويمكن القول إنه منذ ذلك الوقت تحددت رؤية أمريكا للمنطقة ــ وبخاصة بعد الإعلان عن الكيان الإسرائيلى والتى نوجزها فى العناصر الثلاثة التالية:
* تأمين الحصول على النفط وضمان تدفق الأرصدة النقدية العربية.

تطويق الأنظمة والحركات الراديكالية (اليسارية والقومية فى وقت من الأوقات، والإسلامية الآن)، (أو ما يستجد…).

* الحفاظ على أمن إسرائيل
ومنذ ذلك الوقت، لم تتغير هذه الرؤية… تغيرت الخطط بحسب طبيعة الإدارة الأمريكية الحاكمة والسياق الدولى ولكن كانت هذه الخطط تطبق فى ظل رؤية ثابتة…بيد أنه يمكن القول إن فترتى رئاسة بوش قد شهدتا تطرفا فى الخطط التى اتبعت لتنفيذ الرؤية التاريخية… ويمكن مراجعة كل من :رؤية كوندوليزا رايس للسياسة الخارجية التى طرحتها أثناء الحملة الانتخابية لبوش قبل الدورة الرئاسية الأولى(يناير 2000)، والوثيقة الرئاسية التى قدمت للرئيس بوش فى يناير 2001 والتى كان عنوانها: الإبحار فى مياه مضطربة.. أمريكا والشرق الأوسط فى قرن جديد، ومن خلال وثيقتى الأمن القومى اللتين صدرتا فى 2002 و2006..حيث دفعت كلها فى اتجاه ما يلى:
* إضعاف النظام الإقليمى العربى مستغلة الضعف العربى الداخلى.

* الدعم المطلق لإسرائيل باعتبارها الركيزة الأولى لضمان الأمن الإقليمى… وكفالة تفوقها النوعى.

* تهيئة المنطقة للشراكة وفق المصالح الأمريكية التى تدعم الأمن الأمريكى من جهة، وتوفر المناخ الملائم لتطبيق اقتصاد السوق.

* تأمين تدفق النفط العربى وخاصة العراقى.

وثيقة أوباما للأمن القومى… ما الجديد؟
تطرح الوثيقة الجديدة رؤية لا نقول جذرية ـ ولكن مغايرة كثيرا عن وثيقتى 2002 و2006… فأولا تأتى متحررة كثيرا من الرؤية «البوشية/ الإمبراطورية الصدامية» بمفرداتها المتعالية والمتعجرفة… وتطرح رؤية أكثر تواضعا وإدراكا للتحولات الكونية وللقدرات الذاتية المطلوب تقويتها، وفى نفس الوقت تؤكد على الشراكة الدولية لا الانفراد الأمريكى، وتعيد الاعتبار للنظام الدولى والدور الذى يجب أن يقوم به وللمؤسسات الدولية… كما تركز على النمو المتوازن والدائم وتعنى بالأبعاد الثقافية والتعليمية والتكنولوجية والإبداعية والبيئية وتسريع التنمية المستدامة وتحقيق الكرامة بتلبية الاحتياجات الأساسية…كذلك فك الارتباط بين فكرة نشر الديمقراطية واقتصاد السوق..

وعلى الرغم مما سبق، فإننا لا نجد جديدا يذكر فيما يتعلق بالشرق الأوسط (ص 24)، بل يمكن القول إن ما جاء فيها هو استنساخ للموقف التاريخى التقليدى من الشرق الأوسط…حيث الفقرة الخاصة بالشرق الأوسط تبدأ باستمرار الالتزام بتعبير «الشرق الأوسط الكبير»…وبالعلاقة الوثيقة مع «الصديق المقرب إسرائيل» و«التزام راسخ لا يتزعزع بأمنها» (Unshakable commitment to its Security).

كما تؤكد على أهمية «وصولها إلى مصادر الطاقة» (access to energy)… وأخيرا إحداث تحولات فى الموقف النووى الإيرانى… ودمج المنطقة فى الأسواق العالمية… وهكذا تستعيد الوثيقة بل تؤكد على الموقف التاريخى من الشرق الأوسط منذ الحرب العالمية الثانية…فى الوقت الذى نجد فيه مواقف مختلفة فى غير موضوع الشرق الأوسط..

ولعل ذلك يعكس أزمة الإدارة الأمريكية فى اتخاذ مواقف حاسمة أو عدم الوقوع فى مواقف ملتبسة كما ذكرنا فى المقدمة… فقطعا أوباما ليس بوش… وقطعا لم تعد الحكومة أو المجمع الصناعى العسكرى التكنولوجى الأمريكى وحده يصنع السياسة الأمريكية وإنما هناك قوة اجتماعية بازغة تزاحمه فى ذلك ويعبر عنها أوباما…وعليه يجد القارئ للوثيقة هذا التراوح بين الرؤى…فهناك لغة تحمل مضامين اجتماعية واقتصادية وتنموية معاصرة غير مألوفة فى هذه الوثائق… وهناك لغة تاريخية تقليدية تستحضر الموقف المألوف من الشرق الأوسط… وبين اللغتين يظل الأمر على ما هو عليه..
كاتب وباحث سياسى

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern