أمريكا والإصلاح الديمقراطى.. ما الجديد؟

عقب خطاب أوباما فى القاهرة، العام الماضى، والذى وجهه فى المقام الأول إلى العالم الإسلامى، تراوحت المواقف بين رؤيتين كليتين رئيسيتين: الأولى مؤيدة، والثانية معارضة. حيث لعبت الدوافع السياسية والتحيزات الخاصة والواقع العربى المتعثر والعنف والصلف الإسرائيلى، دورا كبيرا فى الاستقطاب الذى حدث بين الرؤيتين، الأمر الذى خفتت معه الرؤية التى يمكننا أن نصفها بالثالثة.. وفى نفس الوقت علينا أن نسأل هل هناك جديد يمكن رصده على مدى عام.. وبالطبع لا يمكن أن نناقش كل البنود التى وردت فى خطاب العام الماضى ولكن نكتفى بموقف الإدارة الأمريكية من قضية «الإصلاح الديمقراطى»..

ملامح الرؤية الثالثة
بداية نوضح ما الذى نقصده بالرؤية الثالثة التى حاولت قراءة خطاب أوباما فى سياق ما يحدث فى الداخل الأمريكى من تحولات من جهة، وما يمثله أوباما كتعبير عن هذه التحولات التى تتجاوز كاريزميته ــ والتى لا يمكن تجاهلها فى نفس الوقت ــ وما يحمله من مشروع فكرى مغاير لمن سبقه من جهة ثانية. كذلك التحولات التى يشهدها عالم اليوم من جهة ثالثة..

وتأتى أهمية ما نقول الآن ــ فى ظنى أنها القادرة على تفسير ما جاء فى خطاب القاهرة وما جاء من خطابات لعل آخرها كلمته لمنتدى العالم الإسلامى.. بطريقة تتوافق مع صياغاته المركبة المتعددة المستويات كما تقى من التعاطى مع الخطاب بمعزل عن السياق المنتج له وشخصية قائله بما يمثل. ولعل هذا ما يفسر كيف أن كثيرين قد تعاملوا مع الخطاب «بالقطعة»، وليس ككل مركب. كذلك، قدرة هذه الرؤية ليس فقط على التفسير، وإنما الحساب العسير إذا تناقضت الممارسات مع مجمل المشروع الذى يقدمه أوباما.

لذا ينبغى التعاطى بشكل مختلف مع أوباما فممارساته وأفكاره تمثل قطيعة جذرية لما سبقها من ممارسات وسياسات على المستويين الاجتماعى ــ الاقتصادى والفكرى. لذا حق لنا أن نقول إن أوباما قد أسس للجمهورية الخامسة (إذا اعتبرنا أن الولايات المتحدة الأمريكية قد مرت بجمهوريات أربع: الأولى من التأسيس إلى الحرب الأهلية والثانية من أبراهام لينكولن إلى الأزمة الاقتصادية فى 1929 والثالثة من روزفلت إلى ريجان والرابعة من ريجان إلى بوش الابن).

تتكون قاعدة أوباما من شرائح مجتمعية وجيلية فى الداخل الأمريكى وربما ــ خارجها ــ كانت مستبعدة لعقود من أن تكون حاضرة ومشاركة لاعتبارات كثيرة. وكانت بالتالى السياسات الاجتماعية تتشكل بطريقة مغلقة من قبل أصحاب المصالح.. وجاء أوباما واستطاع أن يحرر هذه السياسات بعض الشىء فكان قانون الإصلاح الصحى الذى بات يأخذ مصالح شرائح اجتماعية وسطى ودنيا.

وفى هذا السياق كانت السياسية الخارجية الأمريكية تاريخيا، تطبخ فى سياق مصالح عناصر بعينها فى ظل البروتوكول التاريخى الذى يفوض الرئيس بذلك. بيد أن أوباما يحاول أن يحرر السياسة الخارجية من هذا البروتوكول التاريخى فلا يمكن أن تصنفه مع المدرسة الواقعية ولا المدرسة المثالية.. إنها رؤية للعالم تعيد تقسيمه على أساس أغنياء وفقراء وليس على أساس دينى أو ثقافى أو إثنى، وتحاول تجاوز التاريخ الكوليونالى للغرب.

من رؤية بوش التبسيطية إلى رؤية أوباما المركبة
إنها كلمات جديدة على الخطاب السياسى الأمريكى وتعد انقطاعا عما سبق وفى هذا السياق تأتى رؤية أوباما فيما يتعلق بالإصلاح الديمقراطى حيث يقول: «لا يمكن لأى دولة أن تفرض نظاما للحكم على أى دولة.. إلا وفق تقاليد شعبها».. وقبل أن نرصد الاستراتيجيات التى تم الأخذ بها فى هذا المقام..

نذكر أهم التوجهات التى جاءت فى كلمة أوباما لمنتدى العالم الإسلامى فى فبراير الماضى حيث يمكن رصد خمسة توجهات، المدخل إليها هو «الشراكة» الحكومية والقاعدية على السواء.. هذه التوجهات هى: أولا، التعاون التقنى والعلمى، ثانيا، التعاون الاقتصادى، ثالثا، التعاون فى القضايا التى تواجه الجميع دون استثناء مثل الإيدز، والأمن الغذائى، والصحة العالمية، رابعا، الالتزام بعدم تغيير الأنظمة قسرا ولكن هذا لا يمنع من إلقاء الضوء على الانتهاكات فى الواقع وترك الأمر للتفاعلات الداخلية، وأخيرا تشجيع الحركات الإسلامية غير العنفية للانخراط فى العمل السياسى والمدنى وتطوير رؤاها ومواقفها.

إن هذا الخطاب يعد نقلة جذرية عن الرؤية البوشية التبسيطية ذات الطابع الإمبراطورى.. ويمكن أن نحدد الفرق بين الخطابين فى الملامح الأربعة التالية:رؤية أوباما ترى العالم كشركاء، وليس مقسما لأخيار وأشرار،رؤية تقوم على الحوار وتوسيع الخيارات، لا الأخذ بالحلول القسرية،القبول بالصيغ التوافقية، لا الضغط السافر،إشاعة قيم الحوكمة والاحتكام إلى القانون والتخلى عن لغة الغطرسة، لا عسكرة الديمقراطية.

إن تجربة أوباما الشخصية هى «نتاج نقى» ــ بحسب أحد الباحثين الأمريكيين المعتبرين ــ لتجربة حركة الحقوق المدنية فى الستينيات.. وهى تجربة قاعدية عمل من خلالها وسط الناس وتعلم منها التحليل المركب للسياق المجتمعى الذى يتحرك فيه ويدرك ماذا تعنى موازين القوة.. وكيف ومتى يبادر وكيف ومتى يتراجع: خطوة للأمام وخطوتان للخلف».. فما ينجز على أرض الواقع لابد أن يكون من صنع الناس.. فلقد قرأ فرانز فانون وغيره.. وأدرك أن الديمقراطية لا تصدر ولا تفرض عنوة..

الاستراتيجيات الأمريكية لدعم الديمقراطية
فى ضوء ما سبق، يمكن أن نعرض استراتيجيات دعم الديمقراطية والحريات والحقوق.. بحسب ما جاء فى كثير من الأدبيات الأمريكية وردود أفعال الإدارة الأمريكية تجاه الكثير من الأحداث (مثلما ما حدث فى هندوراس وقيرغيستان.. إلخ).. ونجملها فى الآتى:فك الارتباط بين دعم الديمقراطية واقتصاد السوق.. حيث كانت مشروعات الإصلاح الديمقراطى، خاصة الأمريكية ــ قبل ذلك تقرن الديمقراطية باقتصاد السوق أو بسياسات الليبرالية الجديدة.
تجاوز التركيز على فكرة الانتخابات كآلية (تبسيطية بوش) إلى توفير الدعم المؤسسى لكل من الدولة ومؤسساتها والمجتمع المدنى بكياناته على السواء أو ما يطلق عليه «الديمقراطية المتجانسة».
تفنيد الديمقراطية الكاذبة/الزائفة التى تقوم بها بعض الأنظمة الأوتوقراطية،
ترك القوى السياسية والاجتماعية الداخلية فى كل دولة تتفاعل فيما بينها دون تدخل والتعاطى مع النتيجة هذه التفاعلات..

لعل من أهم ما يمكن أن نلقى الضوء عليه هنا هو أولا، ترك التفاعلات الداخلية لكل دولة تأخذ مجراها، وثانيا، توفير كل ما يدعم الديمقراطية لمؤسسات الدولة ولكيانات المجتمع المدنى على السواء على اعتبار أن التطور الديمقراطى لا يمكن أن يتم إلا بتطور طرفى المعادلة، وثالثا، تجاوز السياسات النيوليبرالية والتى فندناها فى أكثر من مقام. ولعل الجدل غير المنطقى الذى ثار حول تراجع الإدارة الأمريكية عن دعم المجتمع المدنى لحساب الأنظمة أو العكس لا يكون له معنى.. خاصة أن هذا يصب فيما كانت تقول به الرؤية الثالثة بأن الديمقراطية لا تستورد مثل السيارة ولا تمنح أو توهب وإنما تكتسب من خلال النضال الداخلى.

يبقى السؤال.. إلى أى حد سوف يستمر هذا الموقف الأمريكى؟.. وهل سيرضى صقور البنتاجون والخارجية وجماعات المصالح التاريخية باستمرار ذلك.. وهل يمثل هذا الموقف استثناءا ظرفيا.. هل سيخون أوباما تاريخه المدنى الذى ناضل فيه من أجل «عبور الانقسام» أم أن القاعدة الاجتماعية البازغة سوف تمكن الإدارة الأوبامية على الاستمرار.. وأخيرا ماذا عنا تجاه هذه التحولات. وهل نقرأها من خلال رؤى أيديولوجية مسبقة أم من خلال قراءة التحولات الداخلية مع عدم التغاضى عن المصالح؟ أسئلة كثيرة تحتاج إلى حوار جاد.

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern