سجالات (الغلوشة) على الحوارات الجدية

أصبحت السجالات الإعلامية الحادة جزءا من طقوس ونظام حياتنا اليومية.. لم يعد خافيا علينا أن هذه السجالات قد أصبحت ــ بتخطيط أو بغير تخطيط ــ تلعب دورا ما لصرف النظر عن القضايا الحقيقية فى مصر أو «الغلوشة» (وأعتذر عن استخدام هذه الكلمة) عليها، وعن محاولة فهمها وفتح حوار وطنى حقيقى حولها.

الغوث.. الغوث
ولتقريب الفكرة، أذكر المشاهد الكريم بأحد كلاسيكيات السينما المصرية ألا وهو فيلم «السفيرة عزيزة».. عندما خطط المعلم الجزار (الفنان العبقرى عدلى كاسب) لشجار وهمى بين رجالته وأهل الحارة لشغل الشرطة عن الجريمة الحقيقية التى سوف يقوم بها لطرد المستأجر (الممثل الكبير شكرى سرحان)، وأخذ صديق المستأجر أستاذ اللغة العربية (ذو الحضور الطاغى عبدالمنعم إبراهيم) يصرخ «الغوث» للفت نظر الشرطة إلى موقع الجريمة الحقيقى وأن شجار الشارع ليس إلا شجارا مفتعلا.

يبدو لى أن السجالات التى تتزايد يوما بعد يوم حول قضايا ــ فى ظنى ــ غير حقيقية أو على الأقل لا تهم إلا أصحابها.. ما هى إلا سجالات مطلوب منها أن ننشغل بها كى تصرفنا عن القضايا الحقيقية وعما يحدث فى مصرنا المحروسة اليوم.

وفى هذا السياق ــ أظن ــ أنه ليس صدفة أن تتزايد السجالات الكلامية: سياسية وثقافية ودينية،فى وقت تتزايد فيه وتتنامى الحركات المطالبية ذات الطابع الاقتصادى والتى تتعلق بالخصخصة تحديدا.. وأخص هذه الحركات تحديدا لأنها تتعرض لواقع الناس البسطاء وحياة أسرهم.. ولأنها تعبر عن كيف فرطت مصر فى قاعدة إنتاجية صناعية عريقة وحصرية.. ولأنها بدأت هذه الحركات تكشف عن الكثير من القصص التى أظنها تعد جريمة فى حق هذا الوطن.

وبدلا من أن يهتم الإعلام بهذه الحركات فى محاولة لفهم بواعثها وأسبابها.. نجد الإعلام بكل أنواعه: المكتوب، والمرئى، والإلكترونى، كله مكرس لسجالات الغلوشة.. إن التغطية المحدودة التى تجرأت عليها بعض وسائل الإعلام للاقتراب من مشاكل الحركات المطالبية تعكس واقعا أليما كما تشير إلى الكثير من الملفات المسكوت عنها تتجاوز واقع هؤلاء المتضررين إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير.. وعلى الرغم من أهمية هذه التغطية وصرخات الاستغاثة للفت النظر إلى دقة الموقف، فإن جل انتباهنا الإعلامى مسخر لسجالات «الغلوشة»..

القضايا الحقيقية التى يجب أن تفرض نفسها
وهنا أشير إلى الحديث المهم الذى أجرته الشروق منذ أكثر من أسبوعين مع المهندس محمد عبدالوهاب وزير الصناعة الأسبق (راجع الشروق الثلاثاء 6 أبريل).. إذا تغاضينا عن دلالة التاريخ، إلا أنه من أهم الأحاديث التى قرأتها فى الفترة الماضية حول «ملف الخصخصة» أحد أهم أركان السياسة الاقتصادية النيوليبرالية.. وهو حديث غير بعيد ــ إذا ما مددنا الخط على استقامته ــ عن الحركات المطالبية المتنامية فى مصر.

إنه حديث «استغاثة» ولفت النظر إلى ما جرى فى مصر جراء سياسات الليبرالية الجديدة.. وكنت أتوقع أن يدفعنا هذا الحديث «الاستغاثة» إلى الانتباه وفتح حوار وطنى حول ما جاء فيه لأن من شأنه أن يفك كثيرا من الشفرات فى فهم ما جرى فى مصر اقتصاديا وتداعيات ذلك على الواقع الاجتماعى المصرى.. ولكن ــ وفى حدود متابعاتى وعلى مدى ثلاثة أسابيع ــ لم يحظ الحديث باهتمام.. وكيف يحظى الحديث/ الاستغاثة بالاهتمام وسجالات «الغلوشة» لا تعطينا الفرصة لمناقشة قضايانا الحقيقية..
وللتذكير فقط بأهم ما جاء فى الحديث نشير إلى أهم العناوين وذلك كما يلى:
لم أعد أتابع ملف الخصخصة الآن لأننى أشعر وكأن عزيزا لدى قد مات.

لا أعرف لماذا باعت الحكومة شركات الأسمنت للأجانب وخسرت مصر أرباحا تصل إلى 70%، كان من الواضح لى من البداية أن البنك الدولى سيقضى على زراعة القطن فى مصر، إننا تعلمنا فى المدارس ونحن صغار أن محمد على أدخل زراعة القطن فى مصر.. وأحفادنا سيتعلمون فى مدارسهم أن «واحد تانى» فى عصرنا هذا قد أخرج زراعة القطن من مصر، وقد كنت لا أرى ضرورة للموافقة على شرط شركة جنرال موتورز، التى ربطت دخولها لإنتاج سيارة فى السوق المصرية بعدم السماح بإنتاج سيارة أخرى فى الداخل. وهذه الموافقة أدت فى النهاية ضمن أسباب أخرى إلى القضاء على شركة النصر للسيارات..

حوار جدى من أجل المستقبل

تأتى أهمية هذا الحديث، وغيره من الأحاديث بأنه جاء، من جهة على لسان أحد الذين كانوا فى المطبخ السياسى والاقتصادى المصرى فى لحظة تاريخية معينة.. ومن جهة أخرى أنه واضع قانون قطاع الأعمال رقم 203 لعام 1991..وفى نفس الوقت لأنه يكشف النقاب عن كثير من التداعيات حول السياسات الاقتصادية التى نتج عنها واقع لا نرتضيه.. ولكنه بحسب قوله يقول لقد كان الهدف من القانون هو التنمية وليس التصفية حيث استدعى هنا كلمة لوزير الصناعة الإيطالى من أن علاج القطاع العام هو أن يعمل بقوانين القطاع الخاص وليس البيع.. وحتى فى ذلك يستطرد الوزير متحسرا بحسب الحديث: «والغريب فى الأمر أن كل عمليات البيع التى تمت فى مصر لم تحتفظ فيها الحكومة بما يسمى «السهم الذهبى»، والذى يعطيها حق الفيتو على أى قرار قد يضر بالشركات كما حدث فى إنجلترا».. ولكن «يبدو أن هناك سوء فهم لدى البعض من أن الحكومة يجب أن يقل دورها فى ظل النظم الرأسمالية».
فى ظنى أن قضية القضايا فى مصر والمدخل الحقيقى للتغيير هو مراجعة السياسيات الاقتصادية التى عرفت بسياسات الليبرالية الجديدة.. والتى خلقت «شبكة مصالح استثمارية مغلقة» ــ بحسب تعبير تقرير البنك الدولى عن منطقة شمال أفريقيا والشرق الأوسط لعام 2010 ــ والتى اتضح أنها تستميت فى الدفاع عن مصالحها فى مواجهة كل من يريد التقليل من مكاسبها ولو بإطلاق الرصاص.. هذا هو جوهر الموضوع.. خاصة أن هذه السياسات ــ وكما أوضحنا من قبل وفى كثير من دراساتنا من منظور حركة المواطنة (دراستا أزمة السوبر رأسمالية وقصة الليبرالية الجديدة) ــ تتم مراجعتها فى بلدان المنشأ أو صاحبة الاختراع.. حتى البنك الدولى بات يتحدث عن التدخل الحكومى وضبط الاقتصاد..
من هذا المنطلق لابد من فتح الحوار حول هذه القضايا وأن تكون هى محور الاهتمام وأن تواجه «سجالات الغلوشة» بكل حسم لصالح قضايا الناس الحقيقية.. إن اعتصامات الناس ليست مجرد تفاوض على رواتب متأخرة أو إعادة تقدير المعاشات المبكرة.. وإنما مراجعة السياسات الاقتصادية برمتها كما يحدث فى كل بلدان العالم.. وعن طبيعة اقتصادنا.. وعن عائد الخصخصة ــ وهنا أحيل أيضا إلى الملف المتميز الذى نشرته الشروق فى 31 أكتوبر الماضى ــ وتناولت فيه غياب إستراتيجية واضحة للخصخصة والاتجاه إلى الاحتكار وملكية الأجانب وذهاب العائد لتسديد الديون..
إن ما حدث وتكرر على لسان الكثيرين ممن ينتمون اقتصاديا للتوجه الرأسمالى هو «إننا غفلنا حقوق الأجيال القادمة» و«وضع ضوابط تمنع الاحتكار».. و«استغلال الأموال فى استثمارات تفيد الأجيال القادمة، ولا توجه للاستهلاك» (راجع ملف الشروق المذكور).
ألا تستحق هذه الموضوعات الاهتمام التفصيلى من إعلامنا ــ مستفيدين من الحرية المتوفرة للإعلام ــ لإطلاق «حوارات جدية» حول المستقبل بدلا من «سجالات الغلوشة».

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern