إن أى نظرة متحررة من التحيزات، والأوهام، للواقع السياسى المصرى يمكنها أن ترصد بسهولة ويسر، مقدار المأزق السياسى الذى تواجهه مصر بكل مؤسساتها ومكوناتها.. فها نحن بتنا على بعد أيام من انتخابات مجلس الشورى وعلى بعد شهور من انتخابات مجلس الشعب.. ولكن لا يبدو فى الأفق أى حراك سياسى جاد يتعلق بهذه الاستحقاقات باعتبارها فرصة حقيقية للتغيير. وفى نفس الوقت يشهد الواقع السياسى المصرى حراكا فى اتجاه آخر يتجلى فى أمرين هما: تزايد الحركات المطالبية من جهة، ومحاولة فتح أفق التغيير فيما يتعلق بالانتخابات الرئاسية الأبعد زمنا، حيث يتراوح ذلك بين الحديث المفتوح حول سيناريوهات المستقبل من قبل البعض، ومحاولة العمل على تعديل الدستور بما يتيح فرصة التنافس الحقيقى فى انتخابات الرئاسة من قبل البعض الآخر.. وهنا يكمن المأزق المتعدد الأبعاد.. كيف؟
البعد الأول: انتخابات تشريعية لا تحظى بالأهمية الكافية
لتوضيح هذا المأزق بأبعاده المتعددة بدقة للقارئ الكريم، نبدأ بالبعد الأول للمأزق.. فمن المفترض أن تكون الانتخابات التشريعية لمجلسى الشورى والشعب هما الطريق لإحداث التغيير فى ميزان القوى السياسية باتجاهاتها المتنوعة.. ومن المفترض أيضا أن هذه القوى السياسية تعبر عن الشرائح والفئات الاجتماعية المختلفة.. بحيث تكون المجالس النيابية معبرا عن الخريطة الاجتماعية المصرية..
فمن المتعارف عليه أن هناك علاقة قوية بين التطور الاقتصادى والتطور الديمقراطى.. فبحسب المنظرين الغربيين مثل لارى دايموند فإن العلاقة وثيقة بين «مستوى التطور الاقتصادى ودرجة تطور العملية الديمقراطية وانتشار قيمها فى المجتمع»، وكذلك إمكانية توسيع دائرة المشاركة فى السلطة من قبل شرائح اجتماعية أوسع، وإمكانية تداول السلطة…الخ.
وفى ضوء ما سبق، إذا قبلنا بما يقول به الليبراليون الجدد ــ فى بلادنا ــ بأن سياستهم قد حققت تطورا اقتصاديا فى مصر، فإن ذلك كان يستدعى تطورا فى العملية الديمقراطية من حيث نسبة المشاركة السياسية وتغيير أنماط التصويت وتوسيع نوعية التمثيل السياسى المعبر عن مجمل القوى الاجتماعية.. بيد أن الواقع يقول غير ذلك فالتطور الاقتصادى أمر يحتاج إلى مراجعة ونقاش يجب أن يمتد إلى كثير من القضايا حول طبيعة الاقتصاد المصرى والسياسات الاجتماعية المترتبة عليه وفلسفة توزيع الثروة العامة للبلاد التى هى أحد أهم أركان تعريف المواطنة ــ بالإضافة إلى المساواة ومنظومة الحقوق والمشاركة ــ ومن مؤشرات تحققها (بعيدا عن حصر المواطنة فى الهوية والانتماء..الخ أو المواطنة فى بعدها المشاعرى).. وهو ما يفسر لماذا ينصرف المواطنون عن هذه الانتخابات.. وأنها لن يكون لها أدنى تأثير على إحداث التغيير المنشود..
فلقد أدرك الناس (المواطنون) أنه لن يحدث أى تغيير فى تشكيلة هذين المجلسين بما يتيح تمثيلا أوسع للقوى الاجتماعية المختلفة من خلال تنوع التمثيل السياسى وعليه كان الانصراف عن الاهتمام بهذين الاستحقاقين.. خاصة أن الخبرة الانتخابية المصرية فى ظل التعددية الحزبية لا تعكس حضورا سياسيا متنوعا فى المجالس التشريعية بقدر ما تعكس حضورا لقوتين رئيسيتين هما القوة المالية/الثروية من جهة، والقوة الدينية من جهة أخرى، حيث يصلا إلى المجلسين التشريعين عبر تعبئة لقوى الجماعات الأولية أكثر من القوى السياسية والاجتماعية وفى حدود أقل من 20% من إجمالى القوة التصويتية التى لها حق التصويت. وهو ما يمثل تناقضا أساسيا لكل ما جاء فى أدبيات الديمقراطية من جانب، ويؤكد أن التطور الاقتصادى يتم فى إطار نخبة بعينها ولم يستطع هذا التوجه الاقتصادى أن يقوم بتعبئة المواطنين وفق توجهاتهم السياسية والاجتماعية لأن هذا يمثل خطرا مهددا لمصالحهم فى حقيقة الأمر..
البعد الثانى: حركات مطالبية متفرقة
الوجه الآخر للمأزق، هو أنه بسبب السياسات النيوليبرالية، فلقد توالت الحركات المطالبية الاحتجاجية التى تعكس بالأساس مقدار التفاوت الاجتماعى والاقتصادى المتضاعف.. وبسب عدم وجود كيانات سياسية ومدنية قادرة على استيعاب هذه الحركات فإنها تعبر عن نفسها ــ بحسب أدبيات الحركات الاجتماعية ــ فى شكل «دورات احتجاجية» Cycles of Protest، متواصلة. (تعكس الدورات الاحتجاجية ثلاثة أنواع من الاحتجاج: الأول، دينى وقبلى وجهوى.. الثانى، سياسى يطالب بإحداث إصلاحات دستورية وسياسية.. الثالث، ارتبط بتصحيح الأوضاع الاقتصادية والمعيشية)..
بيد أن هذه الحركات/الدورات الاحتجاجية لم تستطع أن تنتظم فى المجالين العام والسياسى من خلال كيانات مدنية وسياسية واقتصادية تستطيع أن تدافع عن مطالبها وتعطيها طابعا مؤسسيا يمكن أن تتشابك فيما بينها وأن تكون جماعات ضغط/ مصالح قادرة على تحسين الأحوال وتغيير السياسات.
فالحركات المطالبية تتحرك بمعزل عن بعضها البعض.. فالمرة الوحيدة التى تحركت فيها هذه الحركات بدرجة من درجات التضامن كانت فى 6 أبريل الأول (2008) عندما شارك عمال المحلة مع الباقين فى الإضراب العام آنذاك وهو ما لم يتكرر فى 6 أبريل الثانى (2009) أو الأخير.. واكتفى البعض بالتعبئة عبر المجال الرقمى.. بيد أن الحضور المادى والتواصل بين هذه الحركات شرط أساسى فى مواجهة معوقات التغيير ومقاومة التسلط والعنف.
البعد الثالث: نخبة سياسية تبحث عن قاعدة اجتماعية
المتابع لحركة النخبة المصرية سوف يلحظ أنها تنقسم فيما بينها إلى ثلاثة أقسام، وذلك كما يلى:
* قسم يقفز على الواقع غير معنى بالاستحقاقات التشريعية يتحدث عن المستقبل فى ظل رسم السيناريوهات المستقبلية فى إطار ما هو قائم.
* قسم يثير الكثير من القضايا التى تتعلق بالتحول الديمقراطى.. إلا أن ما يثيره يظل متمحورا حول النخبة لا يتجاوزها إلا لبعض الآلاف فى المجالين العام والرقمى وهو هنا لا يعير الانتخابات التشريعية اهتماما.. وهو ما لاحظه لارى دايموند فى كتابه الصادر فى العام الماضى «روح الديمقراطية» (ونحن هنا نستعين بباحثين لديهم رؤية تميل للتوجهات الرأسمالية ولكنها تعد راديكالية بالنسبة لتوجهات رأسماليينا)، حيث ميز بدقة وفق كثير من الدراسات التى تتابع كثيرا من الدول، أن الديمقراطية تعكس موازين القوة فى الواقع أكثر من الخيار الدستورى المقترح من قبل النخبة المستنيرة».. أو بلغة أخرى لابد للنخبة السياسية بما تحمل من رؤى أفضل أن تجد لها قاعدة اجتماعية تتبنى هذه الرؤى وتناضل من أجل أن تكون حاضرة فى الواقع السياسى بدرجة أو أخرى.. فالتعبئة الشعبية ـ بهذا المعنى ـ تكون وحدها القادرة على دفع التحول السياسى إلى الأمام.. وهذه النخبة تقفز هى أيضا على الواقع غير معنية بالاستحقاقين التشريعين.
وهناك قسم ثالث ــ يمثل الغالبية فيما أظن ــ لا يرى أطروحات كل من القسمين السابقين ناجعة لتجاوز حالة عدم الرضا العام.. فالأمر يحتاج إلى تغييرات جذرية.. بيد أن هذا القسم يؤثر المراقبة عن بعد.
صفوة القول، يواجه واقعنا السياسى مأزقا متعدد الأبعاد.. انتخابات تشريعية لا تحظى بالاهتمام.. وحركات مطالبية متنوعة تتحرك بمعزل عن بعضها البعض.. ونخبة تفتقد للقاعدة الاجتماعية.. كل ذلك فى ظل أحزاب ونقابات وكيانات مدنية ليست فى أحسن حالاتها..
هل يمكن أن نتجاوز هذا المأزق ويصر المصريون على إحداث التغيير أم تضيع فرصة أخرى لتقدم هذا البلد الأمين.. هذا ما سوف تجيب عنه الأيام المقبلة.