تعد فكرة المساواة بين البشر وكيفية سد التفاوت بينهم، من أهم القضايا التى شغلت الإنسانية عبر تاريخها. ومع كل تطور لحق بالمجتمعات كانت هناك مراجعات لفهم ما طرأ من تطور، وما نتج عن هذا التطور من تكون لمصالح وتحالفات جديدة ولمؤسسات تعبر عن كل من هذه التحالفات والمصالح.. ومن إعادة تشكل للجسم الاجتماعى بطبقاته وشرائحه.. وكانت قضية المساواة أم التفاوت هى القضية المحورية التى يمكن أن نقيس بها جدوى وجدية التطور.. وهل استطاع هذا التطور أن يحقق المساواة بين البشر أو عَمقَ التفاوت؟..
المساواة أم التفاوت قصة معقدة
لقد أجمع المنشغلون بقضية التقدم بضرورة الانتباه إلى أن التغيرات المجتمعية Societal Changes، التى تحدث مع كل تحول يلحق ببنية المجتمع إلى أنها تترجم فى أرض الواقع إلى تحولات عميقة فى بنى هذا المجتمع المتعددة. ومن ضمن ما تترك من آثار هو إحداث تفاوتات كثيرة بين البشر على جميع الأصعدة.. تفاوتات أو لا مساواة:
* مدنية وسياسية تتمثل فى اختلال المساواة أمام القانون ومنع حق التمثيل السياسى عن بعض شرائح المجتمع،
* كذلك لا مساواة اقتصادية واجتماعية أو ما بات يعرف فى الأدبيات المعاصرة بغياب «تكافؤ الفرص» بين الجميع دون استثناء.
* وأخيرا لا مساواة ثقافية حيث تتأثر بعض الفئات النوعية بعدم القدرة عن أن تتساوى مع الآخرين فى إمكانية التعبير والممارسة عن الرموز والطقوس الثقافية والعقدية.
* كما لوحظ أنه يمكن أن يقوم أولو الأمر بعملية توزيع غير عادلة للأفراد ــ المواطنين أو يقوموا بتوزيع عادل لمن لا يستحق.
صفوة القول أنه مع التطور الاجتماعى وتبلور الفئات والطبقات الاجتماعية وتكون المؤسسات بأشكالها المختلفة، تبين أن قضية العدالة ــ المساواة أكثر من أن تكون قضية أخلاقية أو دينية محض، فهى ترتبط ارتباطا وثيقا: بنيويا وهيكليا بحركية المجتمع وطبيعة الدولة بهياكلها ونمط الإنتاج السائد والتوجهات المعمول بها وعمن تعبر، وأخيرا السياسات القائمة وهل هى قادرة على تحقيق المساواة أم لا.. المساواة ــ إذا ــ هى قصة معقدة..
أى أن المساواة ليست قدرا أو حالة سكونية دائمة تواجه بتقنيات ومعالجات إجرائية باعتبارها موجودة وستظل موجودة وعليه المطلوب تحسين الأوضاع.. وإنما تواجه برؤى شاملة راديكالية هدفها دمج الذين يعانون من تفاوتات فى البنى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية بصفتهم مواطنين كاملى الأهلية وليس كأفراد يستحقون الإحسان…
المساواة أم التفاوت: التناول الشامل والمعالجة الجزئية
ولتقريب الفكرة للقارئ العزيز.. نحيله إلى ما جاء فى عدد جريدة «الشروق» يوم الثلاثاء الماضى (23/3/2010)، وعلى صفحتين متتاليتين، أولا: فى الصفحة الثامنة حوار أجرى مع مستشار وزير المالية حول القانون الجديد للتأمينات.. وثانيا: وعلى الصفحة التالية مباشرة تغطية لنتائج إقرار الكونجرس الأمريكى لمشروع قانون الرعاية الصحية.. حيث يبدو لى أننا نناقش قضايانا المهمة والحساسة ــ والتى من المنوط بها تحقيق المساواة وتقليل التفاوت ــ بشكل تقنى ــ جزئى بمعزل عن السياق المجتمعى وتطوراته..
ففى سياق الحديث عن قانون التأمينات الجديد، فإننا سنجد أنه على الرغم من أن بعض مبررات الاهتمام بإصداره هو كيف يمكن استمرار القانون الحالى مع وجود معدل التضخم الحالى، وهو أمر إيجابى ولا شك.. بيد أن المنطق يقول بضرورة الحديث أيضا عن حزمة أنظمة الضمان الاجتماعى معه مكتملة، وعن هيكل الأجور فى مصر…الخ، وعن قانون العمل وفاعلية هذا القانون فى إيجاد علاقة عادلة بين صاحب العمل والعامل.. كذلك علاقة كل ذلك مع سياسة الخصخصة.. أى أنه لا يمكن الحديث عن نظام للتأمينات الاجتماعية بعيدا عن التطرق لكثير من الموضوعات.. وهل يستقيم أنه من البداية القول إن القانون قد راعى «عدم زيادة الأعباء على أصحاب العمل»، ولماذا لا نترك البحث الاجتماعى هو الذى يقرر زيادة الأعباء أم لا.. وإذا مددنا الخيط على استقامته هل يمكن الحديث عن الجسم الاجتماعى المصرى بغير وجود خريطة اجتماعية توضح ملامح هذا الجسم، وما طرأ عليه من تحولات..
على الجانب الآخر، نجد الرئيس أوباما وهو لم يزل مرشحا قد وضع قانون الرعاية الصحية مهمة مقدسة وضع تفاصيل القانون فى ظل تشكيل مجموعة عمل خاصة بالطبقة الوسطى Middle Class Task Force، كانت مهمتها أن تضع القانون وفق ما حدث من تطورات على الجسم الاجتماعى الأمريكى أخذا فى الاعتبار كل الأطراف الفاعلة فى هذا الملف من شركات تأمين صحى، وأغنياء، ومدى الحاجة لهذا الموضوع طبقا لجغرافيا الولايات المتحدة الأمريكية، وقدرة الخدمات الصحية الأساسية… إلخ.
وعليه خاض الرئيس أوباما معركة تشريعية ــ على مدى عام ــ لتمرير مشروع الرعاية الصحية فى الولايات المتحدة الأمريكية وفق خطة تفصيلية أجرتها قوة العمل الدائمة الخاصة بالطبقة الوسطى من أجل ما يقرب من 35 مليون أمريكى لا يحظون بأى رعاية صحية، هدفها ضمان مد التغطية الحكومية الصحية للفقراء من جهة، وفرض ضرائب جديدة على الأثرياء، كما يقطع القانون الطريق على أى ممارسات تأمينية ترفض تغطية الأشخاص الذين يعانون بالفعل من حالات صحية متدهورة سيئة قبل التأمين عليهم.. لذا أعتبر ما حدث فى الولايات المتحدة الأمريكية نقطة فارقة ثورية فى تاريخها خاصة إذا ما علمنا أن هذا القانون كان حلما منذ تيودور روزفلت قبل أكثر من 100 عام..
المساواة بأبعادها هى هدفنا
لم تزل المقاربات التى تتناول التغيير فى واقعنا المصرى، تركز على الإجراءات التى تحسن مما هو قائم دون تغييره.. وفى ظل سياسات الليبرالية الجديدة والتى كما رأينا انقلب عليها أصحابها فى بلد المنشأ.. ولا بأس من أن يتبنوا رؤى وتشريعات وخططا راديكالية وخاصة عندما يكون التفاوت ظاهرة تهدد المجتمع..
كما لا تزال المقاربات المطروحة حول الإصلاح الديمقراطى فى مصر بعيدة عن التطرق إلى المسألة الاجتماعية وفى القلب منها إشكالية «المساواة ــ التفاوت»، والتى هى جوهر المواطنة.. ويبدو لى أننا لا ندرك أن العملية الديمقراطية لا تستقيم إلا بإدراك البعد الاجتماعى لها.. بمعنى أن الضمانات الديمقراطية قد تتوافر كما نريد، ولكنها قد تعيد تمثيل القوى والمصالح التى صنعت التفاوتات وخاصة أن الديمقراطية اقترنت بالثروة وهو ما يعنى إعادة إنتاج التفاوتات مرة أخرى فى ظل موازين القوى الحالية.. وعليه، فإن حديث التغيير لا يستقيم دون تدعيم السياسى بالاجتماعى وعمل مجموعات عمل لفهم ما طرأ على مجتمعنا من تحولات.. ونختم بما قاله طه حسين فى أربعينيات القرن الماضى..
«…المساواة لا تأتى إلا بتحقق العدل الاجتماعى بأدق ما يمكن أن يتحقق به العدل الاجتماعى، فلا يجوع إنسان ليشبع إنسان آخر، أو ليشبع إنسان ليجوع إنسان آخر…
مساواة تجعل الناس سواء أمام الثمرات التى قدر للناس أن يعيشوا عليها»…